في الثامن من حزيران عام 2012، خسر لبنان أحد أبرز أعلامه في الصحافة والسياسة والديبلوماسية.
رحل غسان تويني، الرجل الذي اختصر مسيرة وطن في مسيرة قلم، وصاغ بمواقفه وتاريخه عنوانًا للحرية والمقاومة المدنية، في زمن كان فيه الصمت شكلًا من أشكال النجاة.
لم يكن غسان تويني مجرّد ناشر أو كاتب صحفي، بل كان رجل دولة من الطراز الأول، امتلك البصيرة والجرأة في آنٍ معًا. وُلد عام 1926 في بيروت، ودرس الفلسفة في الجامعة الأميركية، ثم السياسة في هارفارد. عاد إلى لبنان شابًا، لكنه تولّى مسؤولية الكلمة باكرًا، حين ورث صحيفة “النهار” بعد وفاة والده، وبدأ رحلة طويلة في الدفاع عن حرية التعبير والدولة المدنية.
على مدى أكثر من ستة عقود، شكّل تويني أحد أبرز الأصوات المعارضة لأي هيمنة خارجية على القرار اللبناني، ورفع منبر “النهار” ليتحوّل إلى السلطة الرابعة بحق.
لم يتردد في نقد الطبقة السياسية أو السياسات الأمنية، حتى حين كلّفه ذلك السجن، كما حصل عام 1973 بعد نشر مقال مسرّب عن اتفاق القاهرة.
في الميدان السياسي، تنقّل تويني بين النيابة والوزارة، من دون أن يتخلى عن استقلاليته الفكرية. شغل مناصب عدة بينها وزير التربية، وزير الإعلام، ووزير العمل، ثم انتقل إلى تمثيل لبنان في الأمم المتحدة في فترة حرجة من تاريخه. هناك، أطلق عبارته الأشهر “دعوا شعبي يعيش”، التي تحوّلت إلى نداء وطني في وجه الاحتلال الإسرائيلي، ورافقتها جهود دبلوماسية حثيثة أسفرت عن صدور القرار 425 عام 1978، الداعي إلى انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني.
لكن المسيرة لم تخلُ من الأثمان الباهظة. فقد تويني أفراد عائلته، حتى استشهاد نجله جبران تويني، رئيس تحرير “النهار”، في تفجير إرهابي عام 2005.
يومها، بدا المشهد أشبه برمز تتجدد فيه المأساة اللبنانية، غير أن غسان لم ينحدر إلى منطق الانتقام، بل دعا من على منبر الجنازة إلى “دفن الحقد والثأر”، في موقف قلّ نظيره في تاريخ النزاعات.
أصدر تويني خلال مسيرته الفكرية عددًا من الكتب التي توثّق مراحل مصيرية في لبنان والمنطقة، أبرزها: دعوا شعبي يعيش، حرب من أجل الآخرين، سر المهنة، وقدر لبناني. وقد شكّلت هذه الأعمال مزيجًا من الشهادة الشخصية والتحليل السياسي العميق.
في ذكرى رحيله الثالثة عشرة، يعود اسم غسان تويني ليتردّد كلما اشتدّ الخناق على الكلمة، وكلما ساد الخطاب الطائفي والتخوين، وكلما تراجعت قيم الدولة لصالح منطق الدويلات. فقد كان هذا الرجل مدرسة في الوطنية الليبرالية، وفي الدفاع عن سيادة الدولة بوصفها شرطًا أساسيًا لبقاء الوطن.
غسان تويني لم يكن سياسيًا بالمعنى التقليدي، بل كان ضميرًا حرًا، وصوتًا وطنيًا عابرًا للطوائف والانقسامات.
وفي زمن القحط السياسي، يبقى أمثاله حاجة ومرجعية، ويظل السؤال الأكثر إلحاحًا: من سيجرؤ بعده على قول الحقيقة كاملة؟