ويتكلّمون عن قواعد اشتباك في الجنوب اللبناني …أية قواعد وما هي تلك القواعد؟! التقاصف بين حزب الله وإسرائيل جارٍ على قدمٍ وساق، والشللُ والتدميرُ المتبادلان قائمين بين قرى شمال إسرائيل وقرى جنوب لبنان، والحوثيون يقصفون إسرائيل بمُسيّراتٍ وصواريخ باليستية … فأين نحن من قواعد الاشتباك بعد مجزرة مجدل شمس المرعبة ؟!
الولايات المتحدة وحماقات الشيطان الأصغر
باختصار، كل ما يُحكى عن قواعد اشتباك وتدخّل إيراني عسكري في حال تهديد حزب الله ولبنان هو كلامٌ هزلي والوضعية برمّتها مهزلة، فلو لم يُطلق صاروخ مجدل شمس من لبنان هل كان سيُطلق من سوريا أو اليمن أو العراق أو إيران؟ طبعاً لا لأن المطلوب الآن استخدام ورقة لبنان لإيصال رسائل متبادَلة كالاتي :
رسالةٌ إيرانية للديمقراطيين في الولايات المتحدة الغارقين في معركة إنتخابية صعبة مفادها أن طهران لا تريد الدخول في حربٍ واسعة شاملة كي لا تحرجهم وتؤثر على أصوات ناخبيهم، وفي المقابل لا تريد طهران التضحية بإنجازاتها ومكاسبها الإقليمية أن هي أحرقت كل مراكبها بنار المواجهة المستعِرة انطلاقاً من جنوب لبنان وإسرائيل.
بالأمس، طلع علينا المتحدث الرسمي بإسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني ببيانٍ أقل ما يُقال عنه أنه متناقض في المضمون والأسلوب، فمن جهة، يهدّدُ ومن جهة ثانية يدعو الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر في العرف والتعريف الإيراني) لإيقاف العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان في ما يشبه غزلاً إيرانياً للديمقراطيين في مرحلة الرئيس جو بايدن الذي انسحب من السباق الرئاسي، في ظل اهتزاز وضعية الحزب الديمقراطي… فبسحر ساحرٍ لم تعد أميركا “الشيطان الأكبر” ولم تعد إسرائيل “الشيطان الأصغر” … بل مناشدة للولايات المتحدة لوقف حماقات إسرائيل …
نظام الملالي لا يريد خسارة أوراقه الرابحة
الحقيقة ليست في ما تدّعيه إيران وما يساندها من بروباغندا إعلامية ترفع سقوف التهديد والمواجهة إنما كل الحقيقة تكمن في أن طهران ونظام الملالي تحديداً لا يريدان التفريط بمكتسباتهما الإقليمية من توسّع لنفوذههما على حساب دول وشعوب المنطقة العربية … فالنظام الإيراني لا يريد خسارة أوراق تأثيره وسيطرته على دول عربية في المنطقة إن هو تورّط في مواجهة واسعة شاملة مع إسرائيل ومن ورائها أميركا والناتو، ويلاحظ في هذا السياق أن حزب الله في مواقفه الأخيرة ولا سيما بعد قصف ملعب مجدل شمس قد جَبُنَ في خطاباته وبياناته بتكرار نفيه لكونه هو مَن استهدف الأبرياء وبمساندته لبيان الخارجية الإيرانية النافي لمسؤولية حزب الله عمّا حدث … وصولاً الى تهديد الحزب إسرائيل بأنه سيردُّ على أي عملية انتقامية إسرائيلية ولو أدى ذلك الى حربٍ شاملةٍ … كلها مواقف إعلامية تترجمُ حقيقة محاولة إيران إنقاذ حزب الله….
كذبة قواعد الاشتباك
هكذا ومرة أخرى، وبعد أن صَمّت إيران آذاننا بأدبيات وخطابات ومفردات الدفاع عن القضية الفلسطينية والدفاع عن القدس والزود عن الفلسطينيين والأقصى، ها هي تتراجعُ أمام حادثٍ جلل لتسارع الى رفع المسؤولية عنها وعن وكيلها الأقوى حزب الله…وهنا يبرزُ السؤال:
“أية قواعد اشتباك هذه تلك التي تتيح قتل واقتناص حياة ما بين 400 و500 من كوادر ومسؤولين وقياديين في حزب الله بضربات إسرائيلية منذ أشهر ؟ فإذا كانت تلك الاغتيالات تحصلُ في ظل قواعد اشتباك ” مضبوطة “، فبالله ماذا كان ليحصل لو لم تكن ” مضبوطة “؟
هؤلاء القادة الذين قتلتهم إسرائيل ثمن كذبة قواعد الاشتباك، بالتأكيد هم كذلك، فالحزب الذي ينفّذ أجندة إيران ومصالحها ومتطلباتها لا يأبه بمَن يسقطُ منه على درب المسيرة الإقليمية للمعلم الإيراني …
بين الانتصار الإسرائيلي المنتظر وتخلّي إيران عن أذرعها العسكرية
إسرائيل لا مشكلة لديها في تدمير لبنان، وهي التي لم تجد مشكلةً في تدمير قطاع غزّة بأكمله … والمخيف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يستكن بعد من غزّة ونتائج حربه وإبادته لها بحيث يشعرُ أنه لم يحقّق بعد الانتصار المنتظر، ما يدفعه للجوء الى أي ورقة أخرى قد تؤمن له بعضاً من الانتصارات ولو المعنوية وأولها ورقة لبنان، وبالتالي فإن مصلحته الشخصية والسياسية تقتضي تهديد لبنان وتدمير بناه التحتية وهذا ما هو عاكفٌ على الإعداد له حالياً….
أما إيران التي تتبجّحُ بدعمها لحزب الله ولحماس في غزّة فلم نجد بأنها قد هبّت لنجدة أو مساندة حماس، تاركةً قياداتها وعناصرها يُقتلون منذ انطلاق “طوفان الأقصى” والى الآن من خلال عمليات قتل إسرائيلية وتصفيات وتدمير معسكرات وأنفاق واغتيال قادة وكوادر، تماماً كما في لبنان مع حزب الله … فكيف تتكلّمُ طهران عن قواعد اشتباك مع كل هذا التخلّي؟
من هنا، فإن الإيراني منهمكٌ أكثر في هذه المرحلة بإيصال رسائل منه حول الاستعدادات لمواجهة شاملة واسعة في المنطقة، وأهم تلك الرسائل الى واشنطن الديمقراطية الحالية بالتساهل معها ودعوتها لإيقاف هجمات إسرائيل وضرباتها على وكلائها، ولا سيما الوكيل اللبناني أي حزب الله.
نظام الملالي لوكلائه: سلّحناكم فدافِعوا عن أنفسكم
ثمة مَن يعتقد أن إيران قد تتخلّى عن لبنان وحزب الله إذا توسّعت الحرب الإقليمية مقابل مكاسب قد تُعرَض عليها أميركياً وغربياً، لكن الحقيقة أنها قد تصبح محرجَة إذ لن يكون بوسعها التخلّي أو التفريط بما تمَّ إنجازه من قبلها خصوصاً في العراق وسوريا، ولذا فإن إجابة نظام الملالي في طهران ومعه الحرس الثوري لوكلائهم واحد : سلّحناكم … فدافِعوا عن أنفسكم ولا تتّكلوا على تدخّلنا المباشر لصالحكم، ما يعني أن طهران تعلمُ علم اليقين أن أي تورّطٍ مباشر لها في حرب موسّعة أو شاملة سيقضي على كل ما اكتسبته على مرّ السنوات في المنطقة، والنتائج ستكون بالتالي وخيمةُ خصوصاً في هذه المرحلة وهذا التوقيت اللذين تمرُّ بهما الولايات المتحدة الأميركية من ظروفٍ دقيقةٍ وخطيرةٍ وحساسةٍ،فيما الحليف الديمقراطي مرتبكٌ أمام منافسٍ جمهوري شرسٍ هو الرئيس السابق دونالد ترامب الذي تكره طهران حتى ذكره فكيف إذا نجح في دخول المكتب البيضاوي في البيت الأبيض وانقضَّ عليها مجدداً … ؟
من هنا، فإن نظام الملالي مستنفَرٌ و “مرعوب” من فكرة وصول ترامب الى البيت الأبيض، ولذا فإنه يعمل حالياً على استمالة إدارة الرئيس جو بايدن لمحاولة تحقيق الحدّ الأقصى من الضمانات التي تقيه الى حدٍّ ما من تلقبات سياسات الجمهوريين تجاهه اإن وصلوا الى البيت الأبيض، فالولايات المتحدة الديمقراطية لم تعد “الشيطان الأكبر” لإيران … ووصول رئيس إيراني إصلاحي هو مسعود بزشكيان الى السلطة في إيران يعكسٌ القدرة الإيرانية الهائلة في تغيير “جلدة” البلاد المأخوذة من نمطها الإمبراطوري الفارسي الصفوي، وقد نجحت في تحقيق ما عجزت عنه الإمبراطورية الفارسية منذ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاس، فتمَّ احتلال العراق و نقل الإسلام الى إيران وتزعّم الثورة العقائدية في المنطقة التي اجتاحت مجتمعات عربية وإسلامية، وصولاً الى تقاسم النفوذ بينها وبين إسرائيل الصهيونية بعقلية براغماتية قوية صارمة تحاكي في كل مرحلة واقعها وتعمل من ضمنها على تحقيق أهداف ثورتها.
منذ العام 2003، و يتقاسم المشروعان الصهيوني في إسرائيل والصفوي الفارسي في إيران المنطقة ويمعِنان في خلق المشاكل وزعزعة أمن دول عربية وسيادتها واستقلالها بهدف تدمير المنطقة وتقسيم شعوبها وزرع الفوضى … وبالطريقة ذاتها التي أدّت الى تدمير العراق وسوريا من قِبل إيران، ها هو نتنياهو يطبّبقها في غزّة وبالتالي ليسمحوا لنا القول” لا محور مقاومة وممانعة ولا قواعد اشتباك … بل فقط توظيف تخادمي على جثث ودماء أطفال غزّة وجنوب لبنان … ومجدل شمس ….فهما طرفان يعيثان فساداً وتدميراً، فيما الملالي وحرسه الثوري ينجح جزئياً في استمالة بعض الشعوب لدغدغة مشاعرهم بإظهار الغيرة على فلسطين وقضية القدس تلبية لأهداف تشييع ثورة خبيثة وتصديرها …