الانقلاب في الغابون بين الحسابات الجيو سياسية وفشل السياسات الفرنسية

gabon

لم يكد حبر بيان الإنقلابيين في النيجر يجف حتى انتقلت العدوى الى جمهورية الغابون التي حصل فيها انقلاب في الساعات الماضية.
جمهورية الغابون حكمت منذ ستينيات القرن الماضي أي منذ استقلال البلاد بما يمكن اعتبارها عائلة “الأسد الغابونية”، ألا وهي عائلة بونغو من الأب الى الإبن، فمن عمر بونغو الأب الى علي بونغو الإبن، أحكمت العائلة سيطرتها على الحياة السياسية في الغابون ووطّدت سلطتها التي كانت تتجدّد عبر انتخابات مشكوك على الدوام بنزاهتها.
الإبن علي بونغو في الحكم منذ أكثر من 13 سنة وقد وصلت خلالها الأمور الاقتصادية والتنموية والمعيشية في الغابون الى الحضيض حيث الفقر والحرمان، علماً أن الغابون دولة نفطية غنية عضو في منظمة الأوبيك النفطية، وبالتالي فإن الفساد الذي عاشته هذه الدولة بلغ حداً لم يعد بإمكان الشعب تحمّله، وقد جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة بالأمس لتعيد الإبن علي بونغو الى السلطة، فيما شاب العمليات الانتخابية غشٌ وتزوير وفساد أغضبَ القوات المسلحة الغابونية التي قررت الإطاحة بنتائج تلك الانتخابات وحلّ المؤسسات الدستورية في البلاد وإقفال الحدود الدولية.
للغابون وخلافاً للنيجر، وضع خاص ومختلف كون البلاد كما ذكرنا غنية بمواردها ولا سيما النفطية وبحكم تموضعها الجيو سياسي عل خريطة أفريقيا والتبادلات العالمية، فالصين هي أول مستورد للنفط الغابوني على سبيل المثال، وتملك دولة الغابون مستوى تعليمياً عالياً فضلاً عن قلة عدد سكانها، الذين يُقدّرون بحوالي مليوني غابوني، ناهيك عن العلاقات الخارجية القوية مع دول الخليج والمملكة العربية السعودية خصوصاً.
منذ سنتين تقريباً، حصلت محاولة انقلاب على الرئيس علي بونغو كان مصيرها الفشل وقد استطاع التغلّب عليها وهو خارج البلاد أنذاك.
المهم أن ما حصل ويحصل في دول أفريقيا منذ فترة لا شكّ بأنه دليل تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا الفرنسية، حيث خسرت فرنسا بظرف أشهر حوالي 8 أو 9 دول خرجت من العباءة الفرنسية، والحليف الأميركي كان أول المستفيدين لملء الفراغ الفرنسي، بحيث لوحظ موقف واشنطن في النيجر عندما حصل الانقلاب كيف أن واشنطن أرسلت سفيرتها الى البلاد، وكيف أن مواقف واشنطن في الدول التي تشهد انقلابات تكون دائماً حيادية غير داعمة للفرنسيين كما يُفترض أن يكون عليه الأمر بين حلفاء، وقد صدقَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين قال منذ أيام إن مَن كانت حليفته الولايات المتحدة الأميركية فهو لا يحتاج الى أعداء.
تراجع النفوذ الفرنسي يطرح علامة استفهام كبرى حول سياسة فرنسا – ماكرون الخارجية لاسيما وأن ثمة خطاً بيانياً مؤسفاً يُثبت كيف أن إدارة الرئيس ماكرون، وفي الوقت الذي تشكو فيه من الطعن بالظهر من قبل الروس والصينيين والأميركيين في مناطق نفوذ فرنسا التاريخية، تراها في أماكن أخرى تطعن بالظهر الشعوب من خلال دعم الفاسدين في الحكم والسعي الى التحالف مع أعداء الأوطان والشعوب، ما يساهم مساهمة مباشرة في ازدياد نقمة الشعوب على فرنسا وآخر مثال على ذلك موقف باريس من الملف اللبناني الذي يجنح في دعم توجهات حزب الله والعمل على إيصال مرشحه سليمان فرنجية الى سدّة الرئاسة.
النموذج نفسه هو الذي طُبق في أفريقيا وتحديداً في الدول الواقعة تحت التأثير الفرنسي منذ حقبة الاستعمار، إذ إن فرنسا في سياساتها الخارجية وعلى مدى ولاية رؤساء متعاقبين عدة، دأبت على دعم رؤساء دول فاسدين على حساب دعم الشعوب بدل الرؤساء، خصوصاً في الدول التي تتمتّع بخيرات ومقدّرات وثروات كما في أفريقيا، حيث لم تنجح السياسات الفرنسية في جعل الشعوب تنمو وتتطور وتشارك في الاستفادة من خيراتها ومقدّراتها كي تستطيع فرنسا الاستفادة بدورها برضى تلك الشعوب.
صحيح أن في المواقف الأخيرة للرئيس ماكرون المنتقدة مثلاً لإيران نجده وكأنه يحاول استلحاق إدراته عن أخطائها الكبيرة بحق دول الشرق الأوسط ومنها لبنان.
المهم يبقى أن الشعوب الأفريقية المنتفضة أمام مسؤولية تاريخية لا تقل أهمية وخطورة عن مسؤولية فرنسا، وتلك المسؤولية تتمثّل في عدم وقوعها في شرك التخلص من استعمار غير منصف وغير عادل لمصلحة استعمار آخر لا يقلّ خطورةً عليها ألا وهو الاستعمار الروسي واستعمار فاغنر، إذ يخطىْ مَن يظن أن بإمكان موسكو وفاغنر مساعدتها على النهوض والنمو والتطور لأنهما بدورهما طامعين بثرواتها وبلدانها طمع المستفيد والمستثمر الجشع .
في موضوع انقلاب الغابون، يمكن الى الآن وصف ما حصل بأنه صراع داخلي من دون تأثيرات مباشرة على فرنسا، أي بمعنى آخر على باريس أن تلتزم في هذه المرحلة الصمت، وفي هذا الإطار حسناً فعلت الحكومة الفرنسية في أولى تعليقاتها على الأحداث حين أعلنت ” أنها تراقب عن كثب التطورات في الغابون” من دون إي إضافة لموقف أو تصريح متهوّر، كما على باريس أن تستمع جيداً الى إرادة الشعب الغابوني الذي الى الآن لم يبدِ عدائية تجاه فرنسا خلافاً لما حصل في انقلاب النيجر، علماً أن في الغابون 12000 فرنسي و400 عسكري فرنسي في قاعدة عسكرية كبيرة، وأن إثنتين من كبريات الشركات الفرنسية
أعلنتا وقف أعمالهما في البلاد، مع الإشارة الى أن شركة “أراميت” وحدها تشغل حوالي  8000 غابونياً.
اذاً اللعبة في الغابون الى الآن مضبوطة بإيقاع حسابات داخلية، وثمة مساعٍ بين الجيش والقوى السياسية الغابونية لتسليم الحكم لزعيم المعارضة الغابونية المفترض أن يكون هو الفائز في الانتخابات البير أوندو أوسا، مع الإشارة الى أن هذا الأخير موضع إجماع من 8 أحزاب معارضة لحكم بونغو.
طبعاً كل هذا لا يجب أن يُنسينا أن أفريقيا اليوم لم تعد هي أفريقيا التي كانت منذ أكثر من 25 سنة، وقد تطورت شعوب تلك الدول وباتت تعرف أين مصالحها تجاه القوى الدولية التي استعمرتها، وباتت تجنح أكثر فأكثر نحو الاستقلالية توصّلاً لاستثمار خيراتها ومقدّرات أوطانها بالطليعة قبل السماح للغرباء باستثمارها وسرقتها ربما منها، ولذا فإن ما يحصل حالياً في أفريقيا ومنذ العام 2020 من سلسلة انقلابات هو الوجه الحقيقي لقرار الشعوب باستعادة المبادرة الوطنية وإعادة خلط الأوراق في المعادلات والحسابات الداخلية والتوازنات الإقليمية وحتى الدولية، فبعد مالي عام 2020 وبوركينا فاسو عام 2022 وغينيا عام 2021 والسودان والنيجر عام 2023 وصولاً الى الغابون منذ ساعات سلسلة من التغييرات الجذرية التي ستترك آثارها القوية والكبيرة والفاعلة على مجمل المعادلات الدولية، خصوصاً اذا أخذنا بالاعتبار وجود الصين والولايات المتحدة وروسيا وتركيا في القارة السمراء بمصالحهم المتشابكة والمتضاربة .
الأكيد أن ما حصل في الغابون ليس نهاية المطاف والمتوقع استمرار سلسلة الانقلابات بإسم الشعوب بحثاً عن ذاتها وثرواتها … في حين قد تتحوّل فيها القارة الى ساحة صراع دولي جديد وكبير وخطير …
يبقى أن نشير الى أنه لا زال أمام فرنسا عدد من الدول حيث لوجودها تأثير في القارة الإفريقية، لا سيما في جنوب أفريقيا وشمال غربي القارة وجمهورية النيجر وساحل العاج والكاميرون والسنيغال حيث تربط تلك الدول بفرنسا معاهدات دفاع وتعاون … فالدور الفرنسي لم ينتهِ في أفريقيا لكن بشرط أن تُحسن باريس تصحيح سياساتها وأن تغيّر في أولويات تعاطيها بأن ينتقل الاهتمام من زعماء وقيادات فاسدة وتحالف مع “أوليغارشيات” مستبدّة الى الشعوب حيث تُصان معها ومن خلالها مصالح فرنسا .

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: