بقلم القاضي زياد شبيب
في الخامس من حزيران من العام ١٩٦٧ اندلعت حرب الايام الستة بين العرب واسرائيل وانتهت الى هزيمة كل من مصر وسوريا والاردن. وقد اختار العرب للهزيمة تسمية تخفف من هولها هي النكسة. والنكسة الكبرى حلت بالقدس. فقد انتهت حرب الايام الستة الى وقوع مساحات كبيرة من الاراضي العربية تحت الاحتلال الصهيوني ومن بينها القدس الشرقية التي كانت تحت السيادة الاردنية حتى ذلك التاريخ، والتي تحتوي أهم الاماكن المقدسة المسيحية والاسلامية. وقد دخلها الاحتلال في اليوم الثالث من الحرب التي انتهت في العاشر من حزيران.
وبسبب وقوعها تحت الاحتلال اصبح محرماً على الحجاج ممارسة حقهم في زيارة تلك الاماكن المقدسة اذا كانوا من مواطني الدول العربية التي ما تزال في حالة حرب مع الكيان المحتل. فمن المعروف ان قانون العقوبات يجرم الفعل المتمثل بدخول ارض العدو او دخول ارض يحتلها العدو من دون اذن الحكومة.
من الطبيعي ان تكون وطأة الحرمان كبيرة على المسيحيين المشرقيين لأن القدس قبلتهم الوحيدة. لَم ولن تغنيهم عن هذه الوجهة اية محجّات مستحدثة. سواء الى ايطاليا او اليونان او اي مكان آخر مهما ازدهرت فيه الحياة الروحية. وهذا على الرغم من محاولات كثيرين من الرؤساء الروحيين واللاهوتيين، عن حسن نية طبعاً، اقناع المؤمنين المسيحيين المشرقيين بعدم أهمية الحج الى فلسطين، تارة بالقول بأن الحج في المسيحية ليس فريضة على المؤمن كما هو الحال في الاسلام، وطوراً بالقول بأن اورشليم العُلْويّة، اي الفردوس، هي ما يجب أن تتوق اليه نفس المؤمن وهو بالتالي في غنى عن التماس تلك الامكنة التي شهدت العمل الخلاصي.
ليس المجال هنا لمناقشة صواب هذه الطروحات ولكن من الثابت أنها فشلت.
لقد فشلت لأن العلاقة الروحية بين المؤمنين والاماكن المقدسة لم تنقطع رغم مرور اكثر من خمسين عاماً على الاحتلال ولأن النور الذي ينبعث من القبر المقدس في “سبت النور” الذي يسبق أحد الفصح، والذي كان الحجاج حتى العام ١٩٦٧ يذهبون من قرانا ومدننا لرؤيته نهاية كل صوم كبير، لم يتوقف عن الفيضان في كل سبت نور وبقيت الاحتفالات تجري بهذه المناسبة تحت الاحتلال بحضور الحجاج من كل انحاء العالم باستثناء الأقربين منهم أي أبناء المشرق. وعندما بدأت شعلة النور المقدس تنقل بالطائرة عبر الاردن وتوزع في كل مكان في سبت النور من كل عام كانت هذه الظاهرة وحدها اكبر اثبات على توق المؤمنين الشديد وتعلقهم بالمكان الذي شهد العمل الخلاصي والصلب والقيامة.
من المعروف انه بعد احتلال القدس اتخذت بعض الكنائس في الشرق، موقفًا يمنع على ابنائها زيارة الاماكن المقدسة تحت الاحتلال، واشهر هذه المواقف ما صدر عن الكنيسة القبطية الارثوذكسية في زمن الانبا شنودة الراحل. وقد أدت هذه المواقف التضامنية المشرّفة الغرض منها ولا تزال.
واليوم وبعد مرور أربعة وخمسين عاماً، لا بد من التفكير في كيفية عدم السماح بانقطاع الصلة بين مسيحيي المشرق واماكنهم المقدسة، وعدم السماح بالتالي لدولة الاحتلال بأن تصبح هي المستفيدة من هذا الانقطاع، والحؤول دون جعل مهمة العدو، الذي عمل وما يزال جاهداً لتهويد القدس، اكثر سهولة. ولا شك بأن قطع الرابط الروحي بين المؤمنين المشرقيين والأماكن المقدسة يخدم العدو.
كثيرون هم من يعتقدون عن حق بأن الاحتلال سوف يزول يوماً ما وأن الكيان المصطنع ليس قابلاً للاستمرار، وهذا ما نتمناه، ولكن حتى ذلك الحين من الواجب مطالبة الامم المتحدة أن تضع يدها على سائر الاماكن المقدسة في فلسطين وتخضعها للسيادة الدولية عملاً بقواعد القانون الدولي، الى حين تمكنها من تنفيذ قرارات مجلس الامن الداعية الى الانسحاب منها. وأن تؤمّن حق المؤمنين بالحج، كأحد حقوق الانسان التي تضمنها الشرائع الدولية، وتوفر لهم سبل الوصول الى القدس من خلال ممرات إنسانية أممية تحت حمايتها ودون الخضوع لأي شكل من اشكال السيادة لدولة الاحتلال.
إن وجع أبناء هذه المنطقة لا يشعر به الآخرون ولا سيما الغرب. حتى الكنيسة هناك لم تنتبه أن من بين اتباعها مسيحيون من هنا، لم يؤخذوا بالحسبان عندما وقّع الفاتيكان اتفاق العام ١٩٩٣ الذي اعترف فيه لدولة الاحتلال بالسيادة على الاماكن المقدسة.
أورشليم القدس الأرضية قد تقدست إذ وطأتها قدما السيّد، واصبحت جزءاً من السماء حين سال دمه المقدس فيها وحين ضمت جسده الطاهر، وأصبحت نورانية كجسده القائم من الموت.
ورغم ذلك نحن نرفض الدخول اليها تحت سيادة دولة الاحتلال. حتى اذا تغيرت القوانين ذات يوم، واجازت ذلك القوانين الجزائية.
إنها لنا. هذه هي الحقيقة التي لن يمر عليها الزمن. وستبقى عيون المؤمنين ترحل اليها كل يوم.