Search
Close this search box.

رفيق الحريري..القارئ النهم للوجدان المسيحي

150523510_4109057259155381_4758946287541140240_n

توثيق: المحامي ميشال فلاّح

لم يتعرّف المسيحيون بعمق إلى الرئيس الشهيد رفيق الحريري قبل توقيع “الطائف”. ومع تسلّم الرجل مسؤولياته الحكومية للمرة الأولى، ازدادت هذه الضبابية وارتفعت في ظل ظروف قاسية واجهها المسيحيون، وقد أنهكتهم مرحلة الوصاية السورية أمنياً وسياسياً واقتصادياً.
هذا الأمر خلق جواً من الالتباس في فهم المسيحيين لما يجري من حولهم، فطرحوا تساؤلات عدة، لا سيما من قبل البطريرك نصرالله صفير ومجلس المطارنة الموارنة، حول دور تهميشي مضاف متأتٍ من الشريك المسلم وقد تحوّلت بكركي يومها الى جانب موقعها الوطني، مرجعية سياسية – مسيحية مع تغييب وإسكات القيادات الزمنية للمسيحيين.
كان الرئيس رفيق الحريري قد حفظ للبطريرك صفير دوره الرائد في تشجيع المسارات الآيلة إلى إيجاد الحلول لإنهاء الحرب. ولا يخفى على أحد مساهمة كل من الرئيس الحريري والكنيسة المارونية في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها اتفاق الطائف. فالأول ذلل العديد من الصعوبات أمامه ورسم العديد من الثوابت الوطنية التي تضمّنها الاتفاق، والأخيرة نظرت إليه على أنّه «مدخل لطيّ صفحة الصراعات الماضية بين من كان يطالب، باسم العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين من كان يسعى، باسم الحريّة، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيّته«.
أقام الرئيس الشهيد، الحوارات المباشرة والمطولة، والكل يذكر “مثوله” أمام سيل أسئلة مجلس المطارنة في خلوات مغلقة. فهو كان يصر على طمأنتهم. لكن، في تلك المرحلة الصعبة، قلة تدرك كم كان عميقاً في تكوين قناعة لدى الكنيسة المارونية بما هي تعبير عن الوجدان المسيحي، أن مسلماً كبيراً من وزن الحريري يأتي اليهم ليناقشهم ويجيبهم.
آمن الرئيس الشهيد بأن إعادة تمتين الكيان لا يمكن أن تتحقق بعيداً عن الشراكة الإسلامية المسيحية، وواجه صعوبات كبيرة في التواصل مع الأطراف كافة لا سيما المسيحية منها بفعل ممارسات سلطة الوصاية السورية آنذاك. وقبيل استشهاده، وبتاريخ 10 شباط 2005 وفي لقاء في مطرانية بيروت المارونية، عبّر الرئيس الحريري عن ضيقه من هذه الممارسات وعدم قدرته على الاحتمال، حين سأله رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر عما يعوق إقامته اتصالات مع المجموعات المسيحية في الأشرفية حين كان نائباً عن بيروت. وأضاف الحريري قائلاً: “ذلك ممنوع”.
ركز الحريري على إرساء علاقة جدية ومميزة وصادقة برأس الكنيسة المارونية، ولم يعترض على لقاء قرنة شهوان. ومع انتكاسة علاقته بالنظام السوري، وجد المعارضون المسحيون للنظام، في الرئيس الشهيد أنه “العامل على الاستقلال من خلال المسيحيين”.
يجوز هذا الكلام على صعيد التوصيف والتحليل، أما في الواقع، فقد جسّد الرئيس الشهيد، معاني الشراكة الحقيقية والتوازن الضروري وأهمية الوجود المسيحي والتنوع في لبنان ودحض مفهوم الأقليات والعددية كسبيل الى عيش الديمقراطية وبناء استقلال ووطن.

لقد غاص الرئيس الشهيد عميقاً في الملف المسيحي، ناسجاً علاقة استثنائية بقداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، وقد التقاه مرات عدة وتناقشا في قضية الوجود المسيحي والفاعلية المسيحية والدور المسيحي، زمناً طويلاً سابقاً لما تشهده المنطقة ولبنان اليوم من تحديات وجودية.
لم يرق ذلك أبداً لنظام الوصاية خصوصاً أن الحريري شجع البابا على زيارة لبنان، في حين حاول نظام الوصاية يومها المستحيل لمنع الزيارة، الأمر الذي نظرت إليه بكركي من هذا الباب، من خلال شهادة الخورأسقف ميشال العويط أمين سر البطريركية المارونية حينها. وفي وقت كان الحريري يتحاشى الألغام ويحاول تهدئة روع سلطة الوصاية تجاه المتغيرات القائمة في وجهها، إلا أنه لم يوفر سبيلاً لإعادة الروح إلى مشروعه الوطني في وصل ما انقطع بين اللبنانيين والعمل على حياكة نسيج مجتمع قائم على الحرية والانفتاح والاعتدال.

من المفيد، ذكر بعض الوقائع، وهي ضمن آلاف غيرها. ففي واقعة شهيرة، طلبت الراهبة رئيسة مدرسة قرية بيت حباق – جبيل مساعدة من الرئيس الشهيد لإضافة جناح إلى المدرسة، فأجابها أنّه سيقدم مقدار ما ستجمع من مراجع ومتبرّعين في طائفتها. لكنّها لم تعاود الاتصال. وبعد مدّة اتصل هو بها وعندما أدرك أنّها لم تتصل لعدم حصولها على شيء من الآخرين قدم لها تكلفة مشروع توسيع المدرسة كاملة.
لقد خصص الرئيس الشهيد نشرة يومية باللغة الارمنية على شاشة تلفزيون المستقبل. كما وَهب حصة اشتراها من جريدة النهار “المسيحية” إلى مطرانية بيروت للروم الأرثوذكس، بعدما اتُّهم بأنه يسعى لأسلمة الجريدة.
فوق ذلك بنى الرئيس الشهيد مقرّاً لسكناه في عمق كسروان في فقرا، وشقّ أوتوسترادات وخطط لمشاريع في المناطق ذات الغالبية المسيحية حلّت الكثير من المشكلات. وكانت لتحلّ غيرها، مثل زحمة السير الخانقة على طريق بيروت – جونية لو لم يواجهه خصومه بحرب شعواء من الأكاذيب والمزاعم.
أما في الاقتصاد فكان الوضع أفضل إذ سرعان ما أقبل رجال مال وأعمال على المشاركة في مشاريع عبّرت عن الثقة بشخصه ونهجه، مثل سوليدير وغيرها. وعندما تيّقن أنّ العقدة والحل يكمنان في بكركي ما إن سمحت الظروف في التفاهم مع سيدها الراحل البطريرك نصرالله صفير على رؤية مشتركة إلى لبنان. وقد تميز تعامله مع البطريرك بحنكة بعد التفاهم الضمني معه، عارفاً من يختار لإيصال الرسائل إليه وإبقاء خط الإتصال ساخناً.
بعد التمديد لإميل لحود في 2004 استقبل الرئيس الشهيد، بناء على طلب منه، صديقه القديم الراحل سمير فرنجية، وكان مرّ وقت طويل لم يجتمعا، ومعه النائب آنذاك فارس سعَيد، وأبلغهما بأنّ السوريين يطلبون منه أن يترأس أول حكومة في الولاية الممدّدة لإميل لحود، وأنّه أجاب بعدم موافقته إذا لم يشارك “لقاء قرنة شهوان” القريب من البطريرك في هذه الحكومة ولذلك “لا توافقوا”، قال.
في اليوم التالي استقبل وفداً من “لقاء قرنة شهوان” ضمّ ثلاثة من أعضائه، الشهيدين جبران تويني وأنطوان غانم والمحامي سمير عبد الملك، أبلغوه من دون مناقشة الفكرة حتى رفض “اللقاء” المشاركة، فأوصل الموقف إلى السوريين وانتهى عنده الموضوع.

لربما كان الرئيس الشهيد يعبّر أوضح ما يكون عن نظرته إلى المسيحيين عندما كان يقول لبعض أصدقائه والقريبين منه ” تستطيعون أن تقولوا عن هذه الجماعة ما تريدون، لكنها لا تتخلى عن ثابتتين: سيادة لبنان واستقلاله، والنظام الاقتصادي الحر”.
وهو، بدوره، شهيد السيادة والاستقلال.

* وحدة الأبحاث في العلاقات الإسلامية-المسيحية
المنسقية المركزية للأبحاث والدراسات
في هيئة الرئاسة – تيار المستقبل

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: