كتبت جويل غسطين في نداء الوطن:
تستمرّ الممثّلة أنجو ريجان في إطلالاتها المسرحيّة، خصوصاً في تعاونها مع الكاتب والمخرج يحيى جابر، وهي حالياً تقدّم شخصيّة “يارا” في العرض المسرحي “شو منلبس”. عمل استوحاه جابر من طفولة ريحان، مع بعض الإضافات من خيال الكاتب لخدمة السّياق الدرامي، يُعيد فتح جراح الحرب والتّهجير، ويستحضر بشقَّيه الدرامي والكوميدي ملامح الحياة في زمن النّزاع، مركِّزاً على قوّة النّساء وصمودهنّ في مواجهة الغياب القسري للأزواج.
تصحبنا أنجو ريحان في رحلة إلى أعماق ذاكرتها، إلى الجنوب اللبناني وتحديداً إلى منطقة “النّهر” خلال حقبة الثّمانينات، حيث كانت تفاصيل الحياة اليوميّة تُعاش تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي. في ذلك الزّمن، كانت “يارا” الطفلة، مع شقيقاتها ووالدتهنّ نجوى، يعشنَ على وقع هدير الدّبابات المستمر، ويستفقنَ كلّ صباحٍ على أخبار المداهمات والاعتقالات، وفي مقدّمها اعتقال الوالد “يوسف”.
الوالد المستهدَف
“يوسف”، والد أنجو أو “يارا”، كما تقدّم نفسها في المسرحيّة، كان مناضلاً شيوعيّاً ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. قبضت عليه القوّات الإسرائيليّة وسجنته لسنوات، تاركاً خلفه زوجته وبناته. بعد تحرّره من المعتقل، لم يكن خلاصه نهائيّاً؛ إذ تعرّض في مرحلة ما بعد التّحرير، لوابلٍ من التّهديدات من أطرافٍ عديدة، كان أخطرها محاولة اغتياله عبر تفجير سيارته.
الهروب إلى الرّميلة
في لحظةٍ حاسمة، قرّر “يوسف”،”أبو إبراهيم”، حماية عائلته من الخطر الدّاهم، فهرب بها من النّهر إلى منطقة الرّمَيلة – بين بيروت وصيدا -، وهناك، بدأت “يارا” فصلاً جديداً من حياتها. وجدت في الرّميلة مساحةً اجتماعيّة أكثر انفتاحاً، بعيدة عن قيود القرية الجنوبيّة المحافِظة التي نشأت فيها، حيث الدِّين والتّقاليد يفرضان على الفتيات نمطاً معيّناً من اللّباس والسّلوك والاختلاط. في الرّميلة، اختارت أصدقاءها كما تشاء، وارتدت ما تحبّ، من دون أن يُلقى عليها ثقل العيون الرّقيبة أو الأحكام الجاهزة.
ابن وابنة
لم يُرزق “أبو إبراهيم” بصبيّ، وبقي في داخله حلم الإبن الّذي يحمل اسمه. هنا، قرّرت “يارا” تقمُّص شخصيّة “إبراهيم”، الذّكر الذي لم يُولد أبداً، رغبةً منها في إسعاد الأب. شاءت أن تكون ابنه وابنته في آنٍ واحد، فحملت حلم والدها على كتفيها، وصارت إبراهيم الذي لم يأتِ، فتبنّت اسمه، ومسؤوليّته، ورجولته كما تخيّلها الأب. هذا التّقمُّص لم يكن مجرّد لعبة طفوليّة، بل كان بداية تَشكُّل وعيها الذاتي، وصراعها مع الهويات المفروضة والموروثة.
الأمّ البطلة
ويبرز أيضاً في العمل المسرحي حضور “نجوى” كجدارٍ من الصّمود. هي الزّوجة والأمّ التي واجهت الصّعوبات بعد اعتقال زوجها “يوسف”، ووقفت بثباتٍ لتحمي بناتها الأربع من شراسة الايّام. لم تهتزّ أمام هدير الدبابات ولا أمام المداهمات، بل شكّلت لبناتها الحضن الدّافئ والدّرع الواقي. جسّدت “نجوى” قوّة النّساء في أحلك الظّروف، فهي ليست مجرّد شخصيّة في حكاية، بل رمز لنساء كثيرات حملن الأعباء بصمتٍ وكرامة، رغم الألم.
تحيّة لقائدتها الكشفيّة
وفي سياق حديث الممثّلة أنجو ريحان عن فترة انتقالها إلى منطقة الرّميلة، لا تخفي الممثّلة المبدعة امتنانها العميق لشخصيّات شكّلت محطّاتٍ فارقة في تكوينها الشّخصي والمهني، ولعل أبرزهنّ القائدة ميرفت عطوي، التي كانت تدرّبها في الكشّاف الشّيوعي. تستحضر ريحان تلك الذّكرى بوضوحٍ لافت، وتروي كيف نظرت إليها ميرفت ذات يوم، وقالت لها بثقة: “أنا أتوقّع أن تصبحي ممثلة في شبابك”. وما هي إلّا سنوات، حتى تحوّلت النّبوءة واقعاً، ووقفت أنجو على المسرح كما توقّعت قائدتها الكشفيّة التي قُتلت في تفجيرٍ استهدف المركز الشّيوعي في الرّميلة.
الملابس التي لا تُرى
قد يظنّ المُشاهد، وهو يقرأ عنوان المسرحية “شو منلبس؟”، أنّه مقبل على عرضٍ يدور حول الثّياب والموضة ومعايير اللّباس في المجتمع. لكنّ ما إن يبدأ العرض، حتّى يتكشّف له أنّ السّؤال المطروح ليس عن القماش، بل عن القوالب الجاهزة من أفكار، ومعتقدات موروثة، وتقاليد مفروضة.
تقول أنجو ريحان في حديثها لـ “نداء الوطن” إنّ الكاتب والمخرج يحيى جابر أراد من هذا العنوان أن يحمل في طيّاته سؤالًا أعمق هو: “ما الذي نرتديه فكريّاً؟”، لا برغبة منّا، بل بخضوع لما يفرضه المجتمع من معايير وقيم ومفاهيم جاهزة حول الهويّة، والدَّور، والمكان، والتّقاليد.
أنجو على الخشبة لا تستعرض ماضيها فقط، بل تفتح حواراً داخليّاً مع كل مُشاهد: من يُملي علينا ما نفكّر به؟ من يجعلنا نخاف الخروج عن نَصّ الجماعة؟ تتحوّل ريحان من راوية لطفولتها إلى مرآة لواقعٍ مألوف، واقع نرتدي فيه لباس الطّاعة على حساب لباس الحريّة، ونتنكّر لما نحن عليه في سبيل ما يريدنا الآخرون أن نكونه.
أداء يلامس القلب
أنجو ريحان لا تمثّل فحسب، بل تعيش على الخشبة. تقدّم أداءً صادقاً، تتنقّل فيه بسلاسة بين مَشاهد الطّفولة والخوف والتّهجير، إلى لحظات البهجة والانعتاق. تستحضر الشّخصيات من ذاكرتها، من الأب المقاوم إلى الأمّ المهمومة، من الضابط الإسرائيلي إلى صديقة الرّميلة، وصولاً إلى مديرة المدرسة وغيرها من الشّخصّيات التي قدّمتها ريحان باحترافيّة على المسرح وانتقلت في ما بينها بكلّ سلاسة وإتقان.
كاتب يرفض المسلّمات
في “شو منلبس”، يظهر نصّ جابر مشبعاً بالحسّ الإنساني، لا يخلو من الفكاهة الذّكية، ولا يتورّع عن لمس الجراح الوطنيّة والدّاخلية. يدفع جابر بجمهوره إلى إعادة النّظر في مفاهيم عدّة، يكتب بلسان أنجو ريحان، لكنه يضع في فمها أسئلة آلاف النّساء والرّجال الّذين ترعرعوا في بيئاتٍ شبيهة.
إشارة إلى أنّ مسرحيّة “شو منلبس” تُعرض بالتوازي مع مسرحيّة “مجدّرة حمرا”، التي تقدّمها أنجو ريحان منذ سنوات وتلاقي منذ بدء عروضها إقبالاً جماهيريّاً واسعاً، ما دفع إلى استمرارها حتى اليوم. وتكشف ريحان أنّها وجابر مقبلان على تقديمهما في لبنان وخارجه. علماً أنّ المسرحيّتين، تُقدّمان شهريّاً وفق جدول منتظم، بمعدّل عرضَين لـ “شو منلبس”، وعرض واحد لـ “مجدّرة حمرا”، على أن يستمر هذا البرنامج طالما أنّ الجمهور مستمرّ في التّجاوب والاهتمام والحضور.