كتبت ألين الحاج في نداء الوطن:
على الرغم من مرور آلاف السنين، ما زال طقس تلوين البيض حاضراً بقوة في العديد من الثقافات والشعوب حول العالم. فهو تقليد لا يقتصر اليوم على المسيحيين في عيد الفصح، أو على الإيزيديين في “الأربعاء الأحمر”، أو المصريين في “شمّ النسيم”، بل يُمارَس أيضاً في بلدان مثل إيران خلال “عيد النوروز”.
منذ العصور القديمة، ارتبطت البيضة برمزية كونيّة عميقة تمثّل بداية الخلق والانبعاث من العدم. في الشرق القديم، من وادي النيل إلى بلاد الرافدين وفارس، كانت البيضة تجسّد لحظة التكوين، ثم أخذت دلالة جديدة في الاحتفالات المسيحية والإيزيدية والمصرية.
في الماضي
كان البيض، في حضارات وادي النيل، وبلاد الرافدين وفارس، يتماهى مع دورة الفصول، لا سيّما فصل الربيع الذي يُجسّد الانبعاث والتجدّد بعد ركود الشتاء، ليحمل في طيّاته وعداً أزلياً بحياة جديدة ومتجدّدة.
في مصر القديمة، اعتُبرت البيضة رمزاً “للخلق الأول”، إذ كان يُعتقد أنّ الكون خرج من بيضة كونيّة. ومن هذا المفهوم وُلد طقس تلوين البيض في “شمّ النسيم”، عيد الربيع الأقدم في العالم، حيث كانت تُنقش الأمنيات على البيض وتُعلّق في المنازل والحدائق.
في بلاد فارس (إيران)، وخلال “عيد النوروز”، رأس السنة الفارسية، الذي يصادف الاعتدال الربيعي، كان البيض الملوّن يوضع على مائدة “السينات السبعة”، كتعبير عن الخلق والتجدّد، ويُزيَّن بألوان نابضة بالحياة واستمرّت هذه العادة حتى يومنا هذا. ومائدة “السينات السبعة” هي السفرة التقليدية في “عيد النوروز”، وتوضع عليها سبعة أنواع من الأطعمة تبدأ بحرف السين باللغة الفارسية، وهي: “سبزه” أي الخضرة، “سركة” نوع من الخلّ، “سنجد” أي التمر أو ثمرة برّية تشبه العنّاب، “سمنو” نوع من الحلوى الإيرانية، “سيب” أي التفاح، “سير” وهو الثوم، و “سمّاق”.
أما في أوروبا الوثنية، عند القبائل الجرمانية والكلتية، فكانت البيضة جزءاً من طقوس الربيع المخصّصة للإلهة “إيسترا” (Eostre)، إلهة النور والخصب. ومن اسمها اشتُق لاحقاً اسم “Easter” في الإنكليزية لعيد الفصح.
في الحاضر
تحوّلت البيضة، عبر العصور، من رمزٍ كوني للخلق إلى عنصر محوري في طقوس دينية وثقافية تعبّر عن الحياة والتجدّد. في ثلاث مناسبات متباينة جغرافياً وروحياً، تحضر البيضة لا كمجرد طعام، بل كعلامة مشحونة بالدلالات.
في المسيحية، ومع توسّعها في أوروبا، تبنّت الكنيسة عادة البيض، وأعادت صياغتها لتواكب عقيدتها في القيامة. غدت البيضة تمثّل القبر الفارغ الذي خرج منه المسيح حيّاً، فصارت رمزاً للقيامة والانبعاث. ويُعتقد أن هذا التقليد انطلق من شرق أوروبا، لا سيّما روسيا وأوكرانيا، حيث نشأ فن البيض المزخرف “بيسانكا”. ومع الهجرة، انتقلت هذه الممارسة إلى أميركا الشمالية، وتحوّلت إلى أحد أبرز طقوس عيد الفصح. في البداية، كان البيض يُلوَّن بالأحمر رمزاً لدم المسيح، ثم أضيفت ألوان الربيع احتفالاً بالحياة الجديدة.
أما في الإيزيدية، فتأخذ البيضة طابعاً كونياً خالصاً، إذ ترمز إلى لحظة الخلق الأولى. يحتفل الإيزيديون بـ “الأربعاء الأحمر” كبداية لتكوّن العالم، حين انتقل الوجود من حالة سائلة إلى أخرى صلبة ومتماسكة، كما تفعل البيضة عند سلقها. يُلوَّن البيض وتُوزّع قشوره لجلب البركة، في طقس يتجاوز الرمزية إلى استحضار أصل الكون.
وفي مصر القديمة، تكتسب البيضة بعداً احتفالياً متجذّراً في تقاليد “شمّ النسيم”، عيد التجدّد والخصوبة المرتبط بدورة الطبيعة. منذ آلاف السنين، كان المصريّون يلوّنون البيض ويزيّنونه بنقوش للأمنيات، ويعلّقونه في سلال على النوافذ، تعبيراً عن عودة الخصب إلى الأرض. وكانت البيضة جزءاً من “مائدة الحياة”، تحتفي بانتقال الطبيعة من السكون إلى الإزهار.
وهكذا، اكتسبت البيضة الملوّنة معنى خاصاً في حضارات مختلفة، لكنها ظلّت في جوهرها رمزاً للبداية، للخلق وللانبعاث. وكل مرّة نلوّن فيها بيضة، نشارك من حيث لا ندري في طقس إنساني كونيّ، تجاوز الزمان والمكان، ليقول بلغة الألوان: “الحياة تبدأ من جديد… دائماً”.