أزمة تركيا أمام المفترق الجيو سياسي 

292808

ما يحصل في تركيا حالياً من احداث متسارعة كانت باكورتها اعتقال رئيس بلدية إسطنبول الليبرالي اكرم امام اوغلو المرشح الطبيعي لمنافسة الرئيس التركي الحالي رجب طيب اردوغان بحجة فتح ملفات فساد ورشاوى ضخمة وخطيرة وتعاون مع منظمات محظورة، ليس محصوراً بحادثة الاعتقال وبالصراع الداخلي فقط بل له امتدادات جيو سياسية.

سبق للرئيس رجب طيب اردوغان أن قالها يوماً بأن من يترأس بلدية إسطنبول يحكم تركيا.. هذا الكلام لم يمنع الرئيس التركي من خسارته انتخابات البلدية رغم نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات العامة والرئاسية التي كتبت للرئيس اردوغان وحزبه الاستمرار والتطور في الحكم.

أهمية بلدية إسطنبول تكمن في انها تستقطب كافة شرائح المجتمع التركي وكافة القوى السياسية فضلاً عن أهميتها الاقتصادية والمالية فهي عاصمة التجارة والمال والبنوك والأسواق المالية.

انطلاقاً من هذه الثابتة فإن بلدية إسطنبول لطالما كانت غاية وهدف الرئيس التركي لاستعادتها ومنع أي منافس من الوصول الى رئاسة الجمهورية والحكم عبرها.

وبما أن البلاد تتجه نحو انتخابات عامة ورئاسية جديدة بعد سنتين وبما أن اوغلو المنافس الليبرالي والعلماني الأساسي والخطير للرئيس اردوغان فقد تكون مصلحة الأخير في التخلص بالقانون من هذا المنافس الشرس له ولحزبه.

من جهة أخرى فإن ما يحصل في تركيا حالياً يأتي في لحظة مصيرية للمنطقة تحاكي حسابات جيو سياسية وتبدلات وانقلابات في المشهد الإقليمي والدولي وتضع تركيا امام مفترق طرق مصيري وخطير.

فالرئيس اردوغان سجل في خلال السنتين الأخيرتين سلسلة من الإنجازات الإقليمية والدولية ليس اقلها:

1 – التخلص من نظام بشار الأسد مع ما يعنيه ذلك من سقوط كافة التحفظات التي كانت لتركيا حيال سوريا.

2 – توتير العلاقات بين تركيا وايران خاصة بعدما ثبت وقوف تركيا داعمة لإسقاط نظام بشار الأسد حليف نظام الملالي في ايران واستبداله بحكم سني مسلم ذات جذور اخوانية مدعومة من تركيا، وإسقاط بالتالي حجر زاوية المشروع الإيراني الصفوي الفارسي في المنطقة واسقاط الهلال الشيعي الصفوي.

3 – نشاطه في ملف الحرب الروسية الأوكرانية ووقوفه على مسافة من الروس والاوكرانيين ومحاولة عقد طاولات تفاوض بناء لطلب الاميركيين والأوروبيين وادارته على ممرات البوسفور والدردانيل الرئة الاقتصادية العالمية للتجارة الروسية والاوكرانية الى العالم.

4 – دعمه اذربيجان ضد أرمينيا في حرب إقليم ناغورني كاراباخ وتمكنه من استنفار كتلة الدول التركمانية في اسيا الوسطى ضد أرمينيا وتنسيقه الكبير مع الرئيس فلاديمير بوتين في إيجاد حل وسلام بين البلدين المتنافسين بعدما استسلمت أرمينيا ووافقت على السلام.

5 – سقوط الديموقراطيين في البيت الأبيض وعودة الجمهوريين والمعروف ان الرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية يرتاح اكثر مع إدارة جمهورية ولا سيما “ترامبية” مما يرتاح مع إدارة ليبرالية علمانية تتقرب من القوى التركية الداخلية المعارضة لنظام حزب ديني عقائدي حاكم كحزب العدالة والتنمية.

6 – اعلان عبدالله اوجلان زعيم البي كي كي، القاء السلاح ووقف الحرب ضد انقرة مع ما يعنيه ذلك من نجاح خطة اردوغان في احتواء لا بل في محو الخطر الكردي الذي كان يشكل تهديداً وجودياً لتركيا.

7 – توطيد علاقاته مع العرب ولا سيما الخليجيين وجمهورية مصر العربية بعد سنوات من المنافسة والتحدي ودعم الربيع العربي والمشاركة في تقوية الاخوان المسلمين في الثورات العربية وصولاً الى تهديد عروش الخليج … وهذا التوطيد في العلاقات فتح لاردوغان افاق إقليمية جديدة حيث بات بامكانه لعب أدوار هامة وإعادة العلاقات التجارية والاقتصادية بين تركيا والعرب والخليجيين بعد سنوات من القطيعة والتوتر .

كل هذه التطورات والتغييرات الإقليمية والدولية نقلت اردوغان من مرحلة إعادة ترميم الصورة والعلاقات الإقليمية الى مرحلة حسم الخيارات تلك المرحلة التي تتطلب بعد تراجع الديموقراطيين والليبراليين إعادة تشكيل الحياة السياسية التركية الداخلية بصورة مختلفة.

ومن هنا فإن تحرر اردوغان من الاعتبارات التي كانت تحكم حساباته السابقة في المنطقة ولا سيما مع الإيرانيين باتت تبيح له الانطلاق من الداخل في عملية إعادة ترتيب أوراقه الداخلية والإقليمية والدولية سيما مع الإيراني الذي بات على طرف نقيض معه في ظل توتر العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة على خلفية تطورات الملف السوري وانقلاب المشهد السوري كلياً.

يذكر ان خط حزب الشعب الجمهوري متماهٍ في علمانيته وليبراليته مع الديمقراطيين وهو اتاتوركي النشأة والفلسفة العلمانية وبالتالي وامام تراجع واحتفاء التوجهات الليبرالية لسحاي التوجهات المتشددة بدأ من البيت الأبيض، فإن الفرصة باتت متاحة ومفتوحة لاردوغان للعودة الى تشدده سيما وانه مرشح لتعزيز ادواره في الإقليم لا سيما على محوري ايران وأوكرانيا، وقد وقف الرئيس التركي الى جانب أوكرانيا واستضاف محادثات اوكرانية روسية أميركية مرات عدة، ولا تزال تركيا تلعب أدواراً استراتيجية خاصة في موضوع احكام قبضتها على الممرات المائية الدولية الخاضعة لادارتها.

الوضع الاقتصادي المتدهور في تركيا ينبئ بتطورات خطيرة ضاغطة فضلاً عن الضغوط السياسية والاحتقان الشعبي فإن احتمالاً كبيراً بعودة دور للجيش خاصة اذا ما تفاقمت الازمات السياسية والاقتصادية.

رئيس حزب الشعب الجمهوري دعى لمؤتمر عام للحزب في شهر نيسان المقبل يقال انه دعى اليها بعد تسرب معلومات خطيرة حول نية الرئيس اردوغان التخلص من الحزب الاتاتوركي من خلال فرض وصاية قانونية عليه ومصادرة املاكه ما ينذر بانزلاق الوضع نحو مواجهات أهلية شرسة تلزم اللجؤ الى القوة لاعادة ضبط الوضاع الداخلي.

حتى الان ومنذ اعتقال اوغلو سجل خروج ما لا يقل عن 15 مليار دولار كأموال واستثمارات من تركيا ما من شأنه تعميق الازمات وتفاقمها سياسياً واقتصادياً، وقد سجل انخفاض في أسعار اسهم البورصة بنحو 8% ما يعتبر انهياراً تاريخياً لليرة التركية والاقتصاد التركي.

كل هذا لا يمنع وعلى سبيل التحليل من طرح اكثر من سؤال ولا سيما سؤالاً معكوساً حول اعتبار الضجة المثارة حول الاعتقال والازمة السياسية يحصل بمعزل عن الرئيس اردوغان حيث قد يكون لا دخل له في كل ما يحصل، باعتبار ان تحميل الأمور اكثر مما تحتمل من شأنه تقوية امر اكرم اوغلو وتعظيم لشأنه الامر الذي قد لا يبدو اردوغان مستعداً للمساهمة فيه.

لكن مهما يكن وفي اخر المعلومات قبل الانتهاء من كتابة هذه الأسطر، إن الرئيس اردوغان أعلن في بيان رسمي إدانته لتصاريح رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي اعتبرها تحدياً لقوات الجيش والقوات المسلحة الشرعية وتحريض لزعزعة الامن العام ومواجهة القوات المسلحة التركية من قبل الشعب …

الأوضاع في تركيا متفجرة ومتأزمة والأيام القليلة المقبلة ستحمل تطورات دراماتيكية وخطيرة ستساهم بشكل كبير ليس فقط في رسم معالم تركيا الجديدة بل وأيضاً معالم الشرق الأوسط.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: