لعل أبرز ما تكشفت عنه التطورات الأخيرة في المنطقة ولا سيما منذ ٧ تشرين الأول الماضي، حقيقة على قَدرٍ من الخطورة بمكان بحيث يمكن لوحدها أن تختصر ليس ما يُقال ويُشاع ويُعتمد من فوق الطاولات وعبر الإعلام، بل ما يُقال ويُخطط له ويقعُ في حقيقة الأمر بين الأطراف الاقليميين والدوليين العابثين بأمن الشرق الأوسط وسلامته واستقراره.
حراكٌ تغييري جيوسياسي في شرق آسيا وشمالها نحو تبديل الستاتيكو الراهن
بدايةً، نشيرُ في الإطار الجيوسياسي الى بدء حراكٍ تغييري في شرق آسيا وشمالها من بوابة بنغلادش، حراكٌ يُنذرُ بمضاعفاتٍ وتداعياتٍ ستبدّلُ حسابات “الستاتيكو” الذي كان يحكمُ المنطقة بين باكستان وأفغانستان والهند، مع امتداداتها الإقليمية باتجاه الصين ومسائل الأقليات الدينية المضطهَدة وغيرها .
بالعودة الى موضوع مقالنا، بات من الواضح ما يلي :
-أولاً: الولايات المتحدة، أقله الديموقراطية، لا تريدُ ضرب الميليشيات الإيرانية بل فقط إضعافها بهدف إبقاء المنطقة العربية، ولا سيما الدول التي تحتلها في حالة عدم استقرار تقطعُ الطريق أمام العرب لبناء منظومتهم التنموية والتجارية والاقتصادية التي سوف تربط الشرق بالغرب.
-ثانياً: إسرائيل لا تريد ضرب إيران وإسقاط نظامها بل فقط تقليم إظافرها وتحجيمها الى الحدّ الكافي الذي لا يجعلها منافِسةً شرسةً لإسرائيل في السيطرة على المنطقة وتعاظم نفوذها فيها، وكلما أرادت طهران تغيير قواعد اللعبة يُمارس عليها ضغط الصفقات فتتراجع وتبتزُّ بالنووي الذي يبقى ورقة تفاوضٍ ومقايضةٍ تسهرُ إسرائيل على ضبطها.
-ثالثاً: الولايات المتحدة الأميركية، منذ عهد الرئيس جورج دبليو بوش(الجمهوري)،أدخلت إيران الى العراق وسلّمتها بوابة العرب الشرقية لمحاصرتهم بالبعبع الفارسي.
-رابعاً: إسرائيل، وبالاتفاق مع الروس هي التي مكّنت إيران في سوريا لإبقاء بشار الأسد وعدم انتصار الشعب السوري السيادي وعدم تقوية الجيش السوري المعادي لها، لا بل تدميره ونزع السلاح الكيميائي الذي كان يُقلقُ إسرائيل، فلولا إيران لما نُزعَ السلاح الكيمياوي السوري الأكثر تطوراً وتهديداً لأمن إسرائيل، ولما دُمّر الجيش السوري بقدراته وأنظمته التسليحية السابقة المتطوّرة، وقد تحوَل حالياً الى ميليشيات أكثر منه جيشاً نظامياً مكتمل التجهيز والتسليح والجهوزية.
-خامساً: الولايات المتحدة التي منعت المملكة العربية السعودية من ضرب الحوثيين بحجة كونهم شِقيّن من النسيج اليمني، هي نفسها تَحولُ دون ضرب حزب الله بالحجة نفسها، كونه يُشكّل جزءاً من النسيج اللبناني بينما الحقيقة هي أن الحوثي في اليمن، كما حزب الله في لبنان، يشكّلان آلتين عسكريتين أمنيتين، استخباراتية إيرانية، يديرها الحرس الثوري الإيراني تماماً كما الحشد الشعبي في العراق الذي تعتبره واشنطن جزءاً من النسيج العراقي، وكل هذا من أجل الحفاظ عليهما كأوراق ضغطٍ وابتزازٍ ضد دول المنطقة والخليج.
-سادساً : إسرائيل هي مَن قَوّت حماس ودعمتها في قطاع غزّة، فيما واشنطن وإسرائيل ضغطا في العام ٢٠٠٨ لتحويل حماس الى سلطةٍ في القطاع، ولاحقاً رفض إتفاقية أوسلو، ومن ثم طرد السلطة من غزّة لتولي مسؤولية حكم القطاع،
واليوم وبعد ٧ تشرين الأول قرّرت تل أبيب، بموافقة واشنطن، إنهاء مهمة حكم حماس للقطاع، ما دفع بحماس وإيران الداعمة لها الى لعب آخر أوراقها مع تعيين يحيى السنوار رئيساً لحماس على طريقة “السولد” الأخير.
-سابعاً: إسرائيل نتنياهو واليمين الصهيوني المتطرّف يهمّهما التهرّب من الاعتراف بحلّ الدولتين، فيما الولايات المتحدة لا تضغط عليهما كما يجب أقله الى الآن، لكن في المقابل فتحت واشنطن ثغرةً كبيرة مع المملكة العربية السعودية كورقة إنتخابية في واشنطن برفع الحظر عن تصدير سلاحٍ هجومي الى المملكة، وقد تكون أيضاً ورقة الخطوة الأولى على طريق إنضاج طبخة التطبيع الآتي ولو بعد حين.
-ثامناً: واشنطن التي سمحت بقصف إيران لمنشآت أرامكو في السعودية، والتي أفرغت الخليج من منظومات الدفاعات الجوّية المتطوّرة لحمايته، خدمت طهران بذلك علماً أن دول الخليج هي من بين أكبر حلفاء الولايات المتحدة به،أوروبا وإسرائيل وأميركا هي نفسها التي ما أن هُدّدت إسرائيل بأمنها وسلامتها لم تبقِ قطعةً من أساطيلها ومدمِّراتها وقاذفاتها إلا و أرسلتها الى المنطقة لحماية إسرائيل والدفاع عنها.
-تاسعاً: لا حرب بين إسرائيل وإيران لأن طهران تدركُ حقيقة تفوّق إسرائيل عليها عسكرياً وتكنولوجياً واستخباراتياً وتسلّحاً، وبالتالي هي ليست في وارد الدخول بمغامرة قد تودي بنظامها اذا ما تفاقمت الأمور واضطُرت إسرائيل مع الأميركيين للقيام بعملية جراحية لإنهاء النظام المتمرّد على إرادتهما، بحيث أن المسؤولين الإيرانيين أذكياء بما فيه الكفاية ليعرفوا كيفية توظيف “البروباغاندا العسكرية” وحملة التحضير للردّ، والضجيج الإعلامي وصخب المحلّلين التابعين لمحورها بما يخدمُ تقوية إسرائيل وترسيخ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة وزيادة أسعار صفقاتها مع واشنطن.
-عاشراً: إيران هي أكبر داعمٍ لتسليح الدول العربية والخليجية من الأميركيين، فكلما أظهرت نواياها العدوانية وتهديداتها لدول المنطقة كلما دفعت تلك الدول الى طلب التسلّح من الأميركيين، وقد بلغت قيمة صفقات التسلّح ٤٠٠ مليار دولار أميركي.
حادي عشر: لطالما عملت إيران على خلق مٌناخات تهديداتٍ إرهابية في المنطقة لتضمن وجوداً دائماً لمنظومة تحمي إسرائيل وحدودها، كما في الجولان وجنوب لبنان منذ العام ٢٠٠٦، أقله كي لا نعود الى الوراء حيث لعبت ميليشيات إيران دور الشرطي لأمن حدود إسرائيل.
ثاني عشر: إيران يا سادة هي الطفل المدلّل لكلٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل، والأداة الفضلى لتدمير العرب واستنزاف مقدرات المنطقة العربية وشعوبها، إذ يكفي لفت النظر الى أن طهران، ومنذ بدأ مسلسل الاغتيالات والأعمال التخريبية داخل أراضيها أو في سوريا أو في لبنان، وصولاً الى اغتيال إسماعيل هنية في طهران، لم تكشف شبكةً واحدة من الذين اغتالوا أو خرّبوا أو فجّروا ….
إنها الحقائق الدامغة التي بُنيَ عليها صرح زعزعة أمن المنطقة والدول والشعوب العربية، ومن هنا فإننا لا و لن ننجرّ الى حملات التعظيم والكذب والدجل من قِبَل مَن يُسمّي نفسه محور مقاومة وممانعة، لأن مخططاتهم كٌشفت، وتخادمهم مع إسرائيل والولايات المتحدة لم يعد ممكناً إخفاءه والتستّر عليه،
فعن أي حربٍ إقليمية أو أي حربٍ شاملة يتكلمون؟!
وعلى مَن يُنظّرون؟
لقد كُشِفَ المستور وبانت الحقائق، وما على الرئيس دونالد ترامب إن عاد الى البيت الأبيض سوى السير بكل وضوح في اتجاه التاريخ، وما كان و ما يجب أن تكون عليه الأمور بلا كذبٍ ولا خبثٍ ولا تلاعبٍ …
وللتذكير ختاماً، فالخلاف الحقيقي الوحيد بين إيران وإسرائيل هو على كيفية تقاسم “كعكة” المنطقة وإدارتها لا أكثر ولا أقل …