كتب جورج أبو صعب:
في مقال سابق، طرحنا السؤال أين إيران مما يحصل لحزب الله في لبنان، والسؤال كان في معرض التأكيد على حقيقة سير إيران بصفقةٍ جديدةٍ مع الولايات المتحدة الأميركية “الديمقراطية”.
اليوم في هذا المقال، نحاولُ التعمّق أكثر في سؤال يتردّدُ على نطاق واسع في شارعنا العربي حول ما اذا كانت إيران قد تخلّت عن حزب الله!؟
بدايةً، دعونا نذكّرُ أن الجمهورية الإسلامية في إيران ومنذ تأسيسها عام 1979، انتهجت في سياساتها الخارجية وبخاصة تجاه الولايات المتحدة الأميركية أسلوب التعاقد على صفقاتٍ لتأمين ما تراه مصلحتها في المقام الأول، الأمر الذي أطلق سلسلة تخادمية من العلاقات بين البلدين وإسرائيل، فعلى سبيل التذكير أبرمت الجمهورية الإسلامية أول صفقة مع الأميركيين عام 1979 بعد أشهر من تسلّم آية الله الخميني السلطة عندما حصلت أزمة الرهائن والديبلوماسيين الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران، وكان آنذاك جيمي كارتر “الديمقراطي” رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وفي حينه تآمر الجمهوريون مع الإيرانيين على إبقاء الرهائن لإفشال الحزب الديمقراطي في فترة انتخاباتٍ رئاسيةٍ كما حالياً، حتى عندما فشلَ الديمقراطيون ووصلَ الجمهوريون الى البيت الأبيض، أُطلق سراح الرهائن الأميركيين.
كانت هذه أول صفقة يبرمها نظام الملالي مع الأميركيين … ثم كرّت سبحةُ تبادل الخدمات، حيث أسّست صفقة الرهائن لصفقة بيع إسرائيل إيران أسلحة في حربها مع العراق (فضيحة إيران كونترا أو
إيران غيت) بعدما أشارت واشنطن الى طهران الى أن أفضل مصدر لشراء الأسلحة هو إسرائيل، ومن ثم أعطت إيران تل أبيب الإحداثيات لقضف مفاعل تموز العراقي النووي، وصولاً الى اليوم حيث تبثُّ شبكات تلفزة فضائية إيرانية برامجها الدينية والعقائدية من خلال أقمار إسرائيلية، بعد رفض الأقمار العربية قبول بثها عبرها …
الصفقاتُ هي لغة الدول والحكومات لحل نزاعاتها ولمنع وقوعها أو لتسويتها بعد وقوعها، والتاريخ السياسي للدول والحكومات حافلٌ بالآف الأمثلة التي لا مجال لذكرها في هذا المقال … لكن مع الجمهورية الإسلامية في إيران والغرب طبيعة وأهداف تلك الصفقات مريبة ومناقضة لسرديات محور المقاومة والممانعة الذي يؤكد العداء بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، في وقت ليست طهران بعيدةً لا عن الولايات المتحدة ولا عن إسرائيل، ومنذ فترة أظهرت دراسة وجودَ تبادلٍ تجاري بين طهران وتل أبيب مع أكثر من 200 شركة في مجالات الزراعة والاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا …
اليوم وإزاء ما يجري بين غزّة ولبنان من حرب إسرائيلية مدمِّرة نقلت المعركة من جيوب غزّة الى العمق اللبناني، يُطرحُ السؤال عمّا تفعله طهران لمساعدة درّة تاجها حزب الله …
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قالها بالفم الملآن : حزب الله لا يستطيع بمفرده مواجهة إسرائيل، معطوفاً على كلامه السابق حول الأخوة الأميركية الإيرانية، ووزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي قالها أيضاً بالفم الملآن بأن إيران لا تريد حرباً مع إسرائيل، وبالأمس كان للمرشد الأعلى علي خامنئي موقفٌ نقله عنه القائد السابق للحرس الثوري الإيراني حسن سلامه بأن إيران لا تريد محاربة إسرائيل في هذا الوقت، الوقت الذي يتعرّضُ حزب إيران في لبنان لأشرس هجومٍ وخرقٍ إستخباراتي أمني عسكري إسرائيلي غير مسبوق … ومع ذلك لا تنوي طهران التدخّل لمساعدة حزبها …
تفسير هذا الموقف الإيراني المتساهل والمهادن يجدُ جذوره في الحقائق الآتية :
-أولاً : إسرائيل حكومة بنيامين نتنياهو قامت وتقوم بتنفيذ مخطط ثلاثي الأبعاد يشمل قطاع غزّة – لبنان – الملف النووي الإيراني. ففي قطاع غزّة، نجحت إسرائيل في تقويض قوة حماس والجهاد الإسلامي، وصولاً الى تحييد القطاع من أي خطر على أمن إسرائيل، وفي القطاع الشمالي مع لبنان تتعاملُ إسرائيل مع العدو العقائدي الأكبر ألا وهو حزب الله بهدف تقويض قوته العسكرية على غرار حماس والجهاد في غزّة، هذا التقويض الذي يمرُّ من خلال ضرب قدراته الميدانية والقيادية تمهيداً لجعل منطقة جنوب لبنان كما غزّة منطقة آمنة تستطيع من خلالها إعادة مستوطنيها الى شمال إسرائيل، نظراً للضغط الشعبي والسياسي الكبير الذي يمارسه هؤلاء المستوطنين على نتنياهو وحكومته لاستمرارهم خارج منازلهم، والكلفة التي تتكبّدها حكومة إسرائيل بفعل إعالتهم وتأمين سكنهم الموقت، بحيث تتمُّ حالياً مواجهة حزب الله بالهجمات السيبرانية (تفجير البيجيرز وأجهزة اللاسلكي) وبالهجمات الميدانية ( جواً وعبر الأهداف الدقيقة لاغتيال القيادات العسكرية العليا في الحزب) تحقيقاً لإقامة مناطق عازلة جنوب لبنان.
أما البعد الثالث فهو البعد الإيراني بامتياز، حيث أن إسرائيل تتعاملُ مع الإيرانيين وفق البعدين : السيبراني والناري كما حصل في 13 نيسان الفائت، وفي العمليات الأمنية داخل إيران من اغتيالات وتفجيرات مناطق وأماكن حساسة وشخصيات كبرى وآخرها اغتيال إسماعيل هنية، فما يهمُّ إسرائيل في البعد الإيراني هو تقويض قدرات إيران العسكرية والصاروخية وتعطيل أو حتى تدمير البرنامج النووي …
-ثانياً: في هذه الأجواء، توجّه المسؤولون الإيرانيون وعلى رأسهم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الى الأميركيين بكلام “الأخوة والسلام” في إشارةٍ الى عدم رغبة إيران باستهداف الأميركيين، شاكياً بأن إيران هي المعتدى عليها والمحاصَرة والمفروضة عليها العقوبات … ذاهباً الى حدّ آفهام الأميركيين أن بإمكان البرنامج النووي الإيراني أن يقتصر على الأغراض السلمية، كما اتُفق عليه في العام 2015 من دون المسّ بالبرنامج الصاروخي الإيراني، شرط وقف التعاون مع الروس في أوكرانيا …
وفي مقابل كل هذا الطرح، تطلبُ طهران من الأميركيين حماية حزب الله في لبنان كون الحزب ورقة إيرانية شديدة الأهمية لإيران، فهو الذراع المنفّذ لاستراتيجيات الجمهورية الإسلامية في المنطقة ولبنان.
هذا هو التوجّه الإيراني مع واشنطن راهناً ودائماً، وذلك من منطلق عدم التورّط الى جانب الحزب في الحرب مع إسرائيل، فإيران تقايضُ مع الولايات المتحدة البرنامج النووي وعلاقاتها مع روسيا، مقابل عدم تصفية حزب الله في لبنان المدعو إيرانياً الى ترتيب أموره بنفسه من دون تدخّل إيراني مباشر …
إذ إن ورقة حزب الله في لبنان هي من الأوراق المهمة لطهران التي تعمل على تحييده من السقوط … لكن إسرائيل التي تعيش خياراتٍ صعبةٍ لن تسمح بأقل من أن ينسحب الحزب من مسافات واسعة جنوب لبنان، مع ضماناتٍ أميركية- إيرانية قد تُعطى لفرملة اندفاعة حكومة بنيامين نتنياهو الحربية … فإلى أي حد يمكن لطهران أن تستمر في التمسّك بحماية الحزب إذا خُيّرت بينه وبين مصالح ومكاسب أكبر؟ كما أنه الى أي حدٍّ يخدم دور الحزب عسكرياً في الوقت الراهن في حربه مع إسرائيل المفاوض الإيراني في نيويورك لحصد أكبر قدرٍ من الأثمان؟
سؤالان برسم الأيام والأسابيع المقبلة …