تبدو الصورة اللبنانية هذه الأيام كأنها تُرسم على عجل بين عتمة وضوء، بلدٌ يقف في منتصف الخطر، يتأرجح بين حربٍ تلوّح بظلها وسلامٍ يهرب عند الأفق. لم تعد التحليلات السياسية قادرة على اللحاق بإيقاع الأحداث، فالغيوم تتكاثر فوق الداخل والخارج معاً، والهاجس يكبر بأن لبنان يقترب من واحدة من أكثر محطاته حساسية في تاريخه الحديث.
ففي الأيام الأخيرة، بدت السماء الجنوبية كأنها تكتب رسائلها بالنار، نحو ثمانية عشر غارة إسرائيلية مركزة ضربت مواقع قيل إنها تابعة لحزب الله، تحت ذريعة إعادة بناء قدراته القتالية والتدريبية. التصعيد الأخير ليس تفصيلاً عابراً في سجل التوترات، بل هو مؤشر إلى انتقال المشهد من مرحلة "المضايقات" إلى حدود الاشتعال المنظم، وسط حديث متزايد عن "ساعة صفر" باتت قيد الحساب الإسرائيلي وحده.
وإذا صحّت التسريبات، فإن السيناريو الذي تعده تل أبيب لا يهدف إلى احتلال بري شامل، بل إلى تكريس واقع ميداني يشبه نسخة معدلة من غزة، حيث تُستخدم القوة لفرض خطوط تماس جديدة من دون اقتحامٍ مباشر، مع احتمال توسع النطاق الجغرافي للنقاط التي احتُلت بالفعل، بالتالي هكذا تبدو الخطة الإسرائيلية محكومة بعقل عسكري بارد، يزن كل ضربة بمقياس التوقيت والمردود السياسي، فيما يقف لبنان الرسمي أمام اختبار وجودي، وهنا يُطرح السؤال المنطقي: كيف يُدار خطر الانفجار من دون الوقوع في فخ الحرب الشاملة؟
وفي موازاة المشهد الميداني، كان رئيس الحكومة نواف سلام يعقد لقاء في الفاتيكان مع البابا لاوون الرابع عشر، في خطوة حملت بعداً رمزياً وروحياً في زمن تُختبر فيه فكرة لبنان نفسها، أعاد سلام التأكيد على وحدة اللبنانيين وتطلعهم إلى الزيارة البابوية المرتقبة، فيما شدد البابا على تضامنه مع لبنان ومع الشعب الفلسطيني، في ما بدا كرسالة مزدوجة إلى الضمير العالمي الغارق في ازدواجية المواقف.
على خط الدبلوماسية الإقليمية، فيُنتظر أن يصل رئيس جهاز الاستخبارات المصري حسن رشاد إلى بيروت يوم الثلاثاء، حيث سيلتقي الرؤساء الثلاثة، في زيارة وصفتها مصادر سياسية بأنها “لافتة” لكون الزائر شخصية أمنية رفيعة المستوى ستتولى إبلاغ لبنان مضامين الرسائل الدولية والعربية الموجهة إليه. وأشارت المصادر إلى أن الزيارة تأتي بعد أسبوع من لقاء رشاد برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ما يمنحها طابعاً استثنائياً يتجاوز الطابع البروتوكولي نحو البعد الأمني – الإقليمي الدقيق. الزيارة بحد ذاتها إشارة إلى أن بيروت باتت مجدداً محطة لتقاطع الرسائل لا لصياغتها.
أما الديبلوماسية الأميركية، فتبدو اليوم كمن يبحث عن خيط النجاة الأخير وسط شبكة متشابكة من التوترات. ومن المقرر أن يصل الوسيط الأميركي توم براك إلى بيروت لعقد سلسلة لقاءات في قصر بعبدا، فيما كانت نائبة المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، مورغان أورتاغوس، قد قامت بجولة ميدانية برفقة وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، جولة يُرجّح أنها تهدف إلى تقييم التطورات السياسية والأمنية وما قد يحصل في المرحلة المقبلة.
وفي الداخل، لا تنفصل الحسابات الانتخابية عن حرارة الميدان، فالقوى السياسية أعادت تشغيل محركاتها باكراً، فيما لا تزال معركة اقتراع المغتربين تشعل الجدل بين من يريد تعديل القانون لإتاحة التصويت لجميع النواب، ومن يتمسك بالنص القائم الذي يحصر تمثيل المغتربين بستة نواب فقط. هذه القضية لم تعد مجرد نقاش قانوني أو حسابات انتخابية ضيقة، بل هي اختبار أخلاقي ومبدئي لكل نائب يمثّل الشعب اللبناني والمغتربين.
وفي هذا السياق، باتت مقاطعة جلسة يوم الثلثاء ضرورة وطنية وأخلاقية لا تحتمل التأجيل، فالحضور من دون إدراج اقتراح القانون المعجل المكرر على جدول الأعمال يعني خيانة مباشرة للمغتربين وغدراً بالثقة الوطنية، حيث إن عدم إلغاء المادة 112 من قانون الانتخابات يقيّد مشاركتهم السياسية ويحدّ من تمثيلهم بستة نواب فقط.
فهذه ليست مجرد جلسة عادية، بل محطة فاصلة تُختبر فيها المبادئ الوطنية والأخلاقية لكل نائب، وموقفه الآن سيكون دليلاً على التزامه بحقوق المغتربين أو انحيازه لمصالح ضيقة على حساب كرامتهم.
وفي الميدان المقابل، يحاول حزب الله إعادة بناء ترسانته العسكرية وترميم هيكله القيادي عبر ما يُعرف بالجيل الثالث من كوادره، جيل شاب لم يشارك في جولات القتال السابقة، ويتسم بانضباط أمني عالٍ وولاءٍ عقائدي متجدد، غير آبه بقرارات الدولة الشرعية ولا بالضغوط الدولية المتصاعدة. وفي خضم هذا التصعيد، خرج نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم ليُعلي السقف مجدداً بقوله: "إذا فرضت علينا معركة، سنقاتل"، لم يكتفِ قاسم بالتحدي، بل اتهم مباشرة اللجنة الأمنية المشتركة المعروفة بالميكانيزم بأنها لا تفيد لبنان بل إسرائيل، في تصريح يعكس انتقال الحزب من لغة التلميح إلى المواجهة العلنية مع الآليات الأمنية التي وُجدت أساساً لتفادي الانفجار، تعليقاً على هذا الموقف، يمكن القول إن الحزب يتعامل مع كل مبادرة تهدئة وكأنها مؤامرة، ومع كل فرصة نجاة كأنها هزيمة مؤجلة.
وفي المقابل، توسّع إسرائيل من دائرة اغتيالاتها، مستهدفة قيادات ميدانية من الجنوب إلى عمق البقاع، حيث طالت ضرباتها سيارة في بلدة النبي شيت في البقاع الشمالي، وأسفرت عن سقوط قتلى وجرحى في بوداي وبلدة الحفير.
إن لبنان، في لحظته الراهنة، لا يواجه مجرد أزمة سياسية أو أمنية، بل اختباراً وجودياً لمعنى الدولة وحدود الكيان. فحين تتقاطع السماء بالنار، والداخل بالفراغ، فكيف لهذا البلد الصغير القدرة على النجاة من عواصف الكبار؟
في الختام، ما يحدث اليوم ليس عابراً، ولا هو تفصيل في سجل الصراعات، إنه فصلٌ جديد من رواية طويلة اسمها "اللبنان الممكن". في زمنٍ يتكلم فيه الحديد، تظل الكلمة الوطنية الصادقة هي السلاح الأخير، والعقل هو الممر الوحيد نحو البقاء. فإما أن يتقن اللبنانيون فن النجاة مجدداً، أو يتركوا الريح تكتب عنهم الفصل الأخير.