في وقت ينشغل فيه الداخل اللبناني بنقاش حاد حول قانون الفجوة المالية، تتباين الآراء بين من يراه مدخلاً إلزامياً لإعادة هيكلة النظام المالي، ومن يعتبره محاولة مقنّعة لتحميل المودعين الخسائر الأكبر. فبينما تسوّقه السلطة كخطوة "تقنية" لا بدّ منها لإعادة هيكلة القطاع المالي واستعادة ثقة المجتمع الدولي، يراه البعض محاولة لتكريس الخسائر وتحميلها للطرف الأضعف في المعادلة. فالقانون، بصيغته المسربة، لا يقدم إجابات واضحة عن آليات استعادة الودائع، ولا يحدّد سقوفاً زمنية أو ضمانات قانونية، ما يجعل المودع أمام مستقبل مالي ضبابي تتحكّم به قرارات سياسية أكثر مما تحكمه معايير العدالة الاقتصادية.
القلق لا يقتصر على مضمون القانون، بل يتعداه إلى السياق الذي يطرح فيه، إذ يأتي في ظل غياب أي محاسبة فعلية، وتأجيل متكرر للإصلاحات، ما يعكس مقاربة تقوم على إدارة الأزمة بدل معالجتها. وفي هذا المشهد، تتحول الفجوة المالية من نتيجة لانهيار منظومة كاملة إلى عبء يعاد توزيعه، من دون تحديد واضح لمسؤولية الدولة والمصارف، ما يضرب ما تبقى من ثقة داخلية وخارجية.
الإرهاب يعود إلى الواجهة.. تهديد عابر للحدود
غير أن لبنان لا يناقش ملفه المالي في فراغ، فالتطورات الأمنية الإقليمية والدولية تفرض نفسها بقوة، مع عودة الإرهاب إلى واجهة الأحداث. من تدمر السورية، حيث سقط ثلاثة جنود أميركيين، إلى سيدني الأسترالية التي شهدت هجوماً دامياً، تتكرس صورة الإرهاب كتهديد عابر للجغرافيا، قادر على الانتقال من ساحات النزاع المفتوحة إلى مدن بعيدة ظاهرياً من خطوط الاشتباك التقليدية.
في هذا السياق، لا تكمن خطورة هذه الهجمات بالنسبة إلى لبنان في أي ارتباط مباشر، ولا في هوية المنفذين، بل في إمكان تمدد الإرهاب وانتقاله عبر الشبكات العابرة للحدود. فالتجارب السابقة أظهرت أن التنظيمات المتطرفة لا تحتاج إلى حدود مفتوحة بالمعنى العسكري، بل إلى ثغرات أمنية، ومسارات لوجستية، وبيئات هشة تسمح لها بإعادة التموضع أو تنفيذ عمليات غير مركزية.
لبنان، بحكم موقعه الجغرافي وتركيبته الأمنية المعقدة، يبقى عرضة لتأثير هذه التحوّلات. فسوريا، المتاخمة لحدوده، لا تزال ساحة رخوة أمنياً، حيث تنشط مجموعات متطرفة وتتحرك خلايا نائمة على وقع الصراعات الإقليمية. أي تصعيد هناك لا يقاس فقط بعدد الضحايا، بل بمدى الضغط الذي يفرضه على دول الجوار، وفي مقدمها لبنان، الذي يعاني من محدودية الإمكانات وتداخل الملفات الأمنية مع الحسابات السياسية.
الرهان على الجيش: اجتماع باريس في لحظة مفصلية
داخلياً، ينقسم اهتمام الدولة بين أكثر من مسار حساس. فلبنان يترقّب اجتماع باريس الذي يشارك فيه قائد الجيش العماد رودولف هيكل، في ظل رهان على تعزيز الدعم الدولي للمؤسسة العسكرية، باعتبارها أحد آخر أعمدة الاستقرار، ما يعكس إدراكاً دولياً لدور الجيش كصمام أمان.
الجنوب على صفيح ساخن.. رسائل الاغتيالات الإسرائيلية
في المقابل، تبقى الساحة الميدانية مصدر القلق الأكبر، فاستئناف إسرائيل لعمليات الاغتيال، وآخرها مقتل ثلاثة من عناصر حزب الله، يعيد التوتر إلى نقطة الغليان. الرسائل الأمنية الإسرائيلية تتقاطع مع رسائل سياسية أوسع، في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، ما يضع لبنان أمام خطر الانزلاق إلى مواجهة لا يملك مقومات تحمّل كلفتها، لا مالياً ولا اجتماعياً.
وفي ظل هذا التصعيد، تتكثّف التحركات الديبلوماسية، فالطرح الفرنسي الذي عُرض على لبنان خلال زيارة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، والقاضي بتعديل آلية عمل لجنة الميكانيزم، يندرج في إطار محاولة غربية لنزع الذرائع من إسرائيل، ولا سيّما تلك المرتبطة باتهام الجيش اللبناني بعدم القيام بما هو مطلوب منه ميدانياً، كتبرير لأي تصعيد محتمل. في المقابل، يتمسّك لبنان، بحسب معلومات LebTalks، بتمديد مهلة تسليم السلاح إلى الأشهر الأولى من العام المقبل، في ظل التعقيدات والحسابات دقيقة.
ميدانياً، تشير مصادر عسكرية إلى أن إسرائيل تتجه إلى رفع وتيرة القصف جنوباً في الأيام المقبلة، في ظل غياب أي تعهدات إسرائيلية حتى الساعة بتخفيف حدة الضربات.
هذا الواقع يعكس تلازم المسارين العسكري والديبلوماسي، حيث يستخدم الضغط الميداني كأداة لتحسين شروط التفاوض وفرض وقائع على الأرض.
القاهرة تدخل على الخط بوساطة إقليمية
وفي هذا السياق، يبرز الدور المصري مع دخول القاهرة على خط المفاوضات المفترض أن تنطلق بين لبنان وإسرائيل. خطوة تحمل أبعاداً سياسية وأمنية تتجاوز الوساطة التقنية، وتندرج ضمن محاولات إقليمية لضبط الإيقاع ومنع توسع دائرة الصراع. إلا أن نجاح أي مسار تفاوضي يبقى مرهوناً بقدرة لبنان على توحيد موقفه الداخلي، وهو شرط لا يزال غائباً في ظل تكرار الأمين العام لـ"الحزب" نعيم قاسم خطاب التمسّك بالسلاح.