ليس مفاجئاً ما يحصل حالياً في سوريا وإن كنا قد تفاجأنا بالسرعة الفائقة التي مكّنت فصائل المعارضة السورية من الدخول الى المدن الكبرى ومحاصرتها وضرب نفوذ الجيش السوري فيها.
إن ما يحصلُ من تطوراتٍ ميدانية هو انعكاس طبيعي لثلاث حقائق:
-الحقيقة الأولى: وصول العلاقة بين بشار الأسد والعرب والخليجيين الى نقطةٍ حرجةٍ إذ لم يلتزم الأسد بنصائح أشقائه رغم القمم والمحاولات.
-الحقيقة الثانية: عدم قدرة بشار الأسد على التخلّص من النفوذ الإيراني وهو الشرط الأساس الذي كان يكتب ضمانة استمراره في الحكم ولو لفترة.
-الحقيقة الثالثة: رفض بشار الأسد تطبيق القرار الأممي ٢٢٥٤ والذي كان سيأمن له خروجاً “مشرّفاً” من الحكم بعد إنجاز إصلاحاتٍ دستورية وسياسية جذرية تقود سوريا الى دستور جديد ديموقراطي برلماني شعبي، ورفضه هذه الصيغة رغم كل المحاولات العربية والخليجية التي بُذلت نقله حكماً الى المقلب الآخر من المشهد وقصّرَ أكثر فأكثر من عمر عهده ونظامه.
انطلاقاً من المعطيات أعلاه، يمكن القول إن سوريا في التركيبة الجيو سياسية الإقليمية هي الأساس لتغيير النظام الإقليمي، لا لبنان ولا فلسطين، ذلك أن سوريا بموقعها الجيوسياسي والاستراتيجي وبرمزيتها التاريخية تُعتبرُ البوابة الرئيسية للتغيير الكبير، وقد أثبتت التجارب في السنوات الخمس الأخيرة أن بشار الأسد ارتضى منح سوريا للإيراني والروسي من أجل بقائه في السلطة غير آبه بسوريا ومصلحة الشعب السوري ودور سوريا المحوري في استيعاب العودة العربية.
اختيار الأسد الوقوف في المخيم الإيراني أودى به الى ما يعيشه اليوم حيث، وعشية دخول الرئيس المنتخب دونالد ترامب البيت الأبيض، تتوزّع الأوراق ويُعاد خلطها ويتهافت كل طرف إقليمي الى تجميع أوراقه وتعزيزها استعداداً لتثبيت وجوده على الأرض، فمع الرئيس ترامب العمل مع الأقوياء ومَن يُثبِت أنه قوي له الأولوية.
المنطقة بأسرها تعيش إرهاصات الشرق الأوسط الجديد كما تصوّرها برنارد لويس في الخمسينيات من القرن الماضي، تلك الإرهاصات التي تتجلّى في كل بلدٍ من دول ما كان يُسمّى “الهلال الشيعي الإيراني”، وقد سقطت منه الى الآن غزّة ولبنان وجاء دور سوريا التي ستحدّد مستقبل خريطة المنطقة ولا سيما العلاقات مع العراق ومستقبل نظام إيران وملفها النووي.
من هنا، نعتبر أن ما يجري في سوريا هو استكمال لتنفيذ مخطط رسم مناطق النفوذ الإقليمية والدولية داخل سوريا والمنطقة باتجاه التقسيم على خلفية إنهاء أذرع إيران العسكرية، سواء في غزّة أو لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن وصولاً الى الإطباق على إيران.
لعل توقيت هجوم المعارضة السورية على النظام يحملُ معه أكثر من رسالة أبرزها قد يكون حالة الوهن التي أُصيب بها محور إيران بعد ضربتي غزّة ولبنان، فلا إيران قادرة على مزيد من المساعدة لبشار الأسد، ولا روسيا قادرة على مؤازرته كما فعلت بقوة في العام ٢٠١٥، فالمعارضة السورية عادت بعد غياب خمس سنوات أكثر تنظيماً ووحدةً وتسلّحاً وهي صاحبة عقيدة تقاتل بشراسةٍ بدعمٍ تركي مبطّن، حيث أن اردوغان يحاول اعتماد نفس أسلوب تدخّله في حرب أذربيجان مع أرمينيا أي “في الكواليس” بعدما سقطت منصّة أستانا وتعزّزت رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التخلّص من “الدرّة ” الإيرانية في الميراث السوري.
اللافت في خضم هذه الأحداث الموقف الإميركي مما يحصل في سوريا حيث أكدت واشنطن استمرار وجودها في سوريا للدفاع عن مصالحها الحيوية وفي طليعتها عدم عودة “داعش” وتطبيق القرار الأممي ٢٢٥٤، بما يعني أن واشنطن ليست ضد الثوار السوريين الحاليين بل ضد نظام الأسد، وهي لا تريد منحه أي غطاء أو أي دور بعد الآن مع ما يعنيه هذا الموقف الأميركي المتقدّم من تفعيل لخطط تحرّك العرب والخليجيين للتلاقي مع المصالح التركية مجدّداً وبمشاركة روسية مبدئية للابتعاد عن إيران.
حماة تبقى نقطة التحوّل في هذه الثورة الجديدة، فإذا نجح بشار الأسد في الاحتفاظ بها ولو لحين يكون قد كتبَ وقتاً إضافياً لنظامه، أما اذا سقطت بإيدي الثوار فعندها تصبح دمشق قريبة من السقوط، وبالتالي فإن إيران تكون مهدّدةُ بوجودها المباشر في سوريا، وعندها يتحرّك ثوار درعا والقنيطرة والسويداء لملاقاة ثوار الشمال لرسم حدود المناطق السورية الخاضعة لسلطة الثورة.
الولايات المتحدة تحاول من جهتها المراهنة على الوقت، وهي ترغب في “خلخلة” المسمار الروسي قليلاً في سوريا تمهيداً لمفاوضات الحل النهائي في أوكرانيا وابخازيا ومقاطعات جيورجيا التي تصاعدت فيها التوترات بين موسكو وتبليسي.
هذا الشهر يبدو أنه شهر التبدّلات الكبرى في المنطقة قبل وصول ترامب الى البيت الأبيض انطلاقاً من أن الأقوى على الأرض يحالف واشنطن، وسوريا بتفجّر بركانها ستفجّر صواعق التغييرات الدراماتيكية على مساحة خريطة الإقليم ولكن ما دون هذه التطورات الضخمة مخاوف وقلق ليس أقله الخلفيات الدينية والعقائدية لثوار سوريا الحاليين لا سيما وأن تنظيم الجولاني لا يزال على لائحة الإرهاب الأميركية، وما يمكن بالتالي أن يكون هناك من تداعيات على الإقليات في سوريا وبخاصة المسيحية.
مسائل تُرتّب بالأولويات فيما الأولوية المطلقة الآن تبقى في توحّد السوريين حول الثوار الجدد والمعارضة المنظمة.. فالأيام القليلة المقبلة حبلى بالمفاجآت فيما يبدو أن نظام بشار الأسد يخطُ كلماته الأخيرة في سجّل حُكمه الأسود.