التخبط الإيراني بين ضرورات الردّ الثأري… ومؤشرات التأزّم العام

iran

منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس في طهران والنظام الإيراني في وضع المتخبِّط بين ضرورات الردّ وقياس مدته وقوته وتحديد متطلباته، وبين الضغوط الداخلية كما الخارجية التي يواجهها لثنيه أو لنصحه.

ما هو أكيد أن النظام الإيراني أمام أحجية كبيرة تبدأ باحتساب الفخ الإسرائيلي بجرّها الى حرب، ولا تنتهي بأزمة مؤسسات الجمهورية الإسلامية وآخر تجلّياتها استقالة نائب الرئيس الإيراني الجديد محمد جواد ظريف وزير الخارجية السابق.

طهران وحسابات الردّ المرتقَب

على صعيد الردّ الإيراني المنتظَر، ثمة حساباتٌ أجرتها القيادة الإيرانية شملت اتصالات دولية وإقليمية لإيجاد الظروف المناسِبة للردّ، لأن النظام رفعَ سقفه كثيراً غداة اغتيال إسماعيل هنية في قلب عاصمته عندما إعتبر الاغتيال مسّاً بشرفِ الجمهورية الإسلامية وكرامتها، الأمر الذي لا يمكن تركه يمرُّ مرور الكرام من دون ردٍّ مُكلفٍ لإسرائيل، هذا الخطاب الذي لم نسمعه يوم اغتيل قاسم سليماني في بغداد ولا عندما اغتيل العالِم النووي فخري زاده وسلسلة من العلماء والقياديين في الحرس الثوري الذين سقطوا في قلب إيران أمام منازلهم ومراكز أعمالهم، فلماذا ينتفضُ النظام الإيراني اليوم على اغتيال ضيفٍ فلسطيني هو رئيسٌ لحماس ؟!

الجواب يجدُ جذوره  أبعد بكثير من لحظة الاغتيال أو من حيثياته وتداعياته إذ إن جذور هذا الموقف الإيراني تعود للاعتبارات الآتية :

أولاً: قناعةٌ باتت راسخة لدى النظام الإيراني بعدم إمكانية التوصّل الى اتفاق نووي أو صفقة إقليمية قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني المقبل .

ثانياً: خيبةُ أمل النظام الإيراني من إمكانية الإفراج عن أموالٍ وحقوقٍ للنظام تخضعُ ولا تزال للعقوبات الدولية .

ثالثاً: القراءةُ الإيرانية للمشهد الإقليمي انطلاقاً من حرب غزّة في ظل الاحتشاد الضخم للأساطيل الأطلسية، ولا سيما الأميركية والبريطانية في المنطقة، وعدم رغبة إيران في فقدان ما تعتبره إنجازاتٍ ومكاسب وأوراق ضغط لها في المنطقة، وهي التي لا تزال تتحكّم بأربعة دول عربية، فضلاً عن حماس أو مَن تبقّى منها في القطاع، الى اعتباراتٍ داخلية وخارجية أخرى سبقَ أن شرحنا قسماً منها في مقال أخير لنا بعنوان : “تداعي أوراق النظام الإيراني الإقليمية : هل بدأ العد العكسي لتصفية حماس؟”

إيران تهتمُ بالثأر لنفسها أولاً

إنطلاقاً من كل هذه الحسابات الواردة أعلاه، جاء اغتيال هنية ليعطي لإيران فرصةً لإثبات وجودها الفاعل والمؤثِّر مجدّداً في معادلات المنطقة، ومن هنا اهتمامها أكثر بالثأر لنفسها إزاء الإخفاقات المُشار اليها أعلاه من الثأر لاغتيال هنية، لاسيما وأن ثمة مخاوفَ حقيقة داخل النظام الإيراني من عودة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الى البيت الأبيض ما سيعني تهديد مصير النظام ومحاصرته أكثر فأكثر.

على صعيد آخر، لو وقعت إيران في فخّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتورّطت في حرب معه، فستنتقلُ المواجهة الى الداخل الإيراني، الأمر الذي سيُخالف كل مفهوم الحرب من خلال الوكلاء واستراتيجية النظام الإيراني بجعل الحروب على أراضٍ أخرى بعيداً عن إيران، كما أن انتقال

 الحرب الى الداخل الإيراني سيعني ضرب وتدمير البنى التحتية الإيرانية من شبكات مياه وكهرباء وغاز  ومواد غذائية واستشفاء وأدوية … الخ، وحتى المنشآت النووية ومراكز تصنيع الأسلحة والصواريخ والمُسيّرات وقواعدها ما سيؤدي الى دمارٍ كبيرٍ سيدفعُ بالشعب الإيراني الى إعلاء أصوات نقمته على النظام، وبالتالي ثورته على النظام الذي، إن وقعت الحرب وباعتقادنا أنها لن تحصل إلا اذا وقّعَ على صكّ استشهاده، سيضعفُ هذا النظام كثيراً مما يسهّلُ الإطاحة به من قبل الشعب ولو كلّفه سَيلاً من الدماء والقمع من قبل الحرس الثوري الإيراني .

نظام الملالي والبحث عن صيغٍ دبلوماسية من أجل حفظ ماء الوجه

في هذا السياق، يهمنا لفت الانتباه الى الآتي :

إن أي دخول لإيران في حرب إقليمية سيُعزّزُ معسكر السلام داخل إيران، وهو معسكرٌ خَفتَ صوته بعد سلسلة الانتفاضات الداخلية التي قام بها الشعب ضد النظام، والتي قُمِعت بالقوة، وأحجمَ الغرب عن دعمها لحاجته الى بقاء النظام الإيراني،

كما أن أي دخول إيراني في الحرب سيُقوّي إسرائيل عسكرياً بفعل الدعم الأميركي المباشر لها مع الحلفاء الغربيين، ويعوّم رئيس الوزراء نتنياهو وحكومته الصهيونية المتطرّفة.

 من هنا، فإن تأخر الردّ الإيراني الموعود، له ما له  وعليه ما عليه من أثقالٍ حمّلَ النظام الإيراني نفسه بها، وها هو الآن يبحثُ عن صيغٍ ديبلوماسية لإنقاذ ماء وجهه لكن لا تبدو أنها  موفّقة خصوصاً من الجانب الأميركي، حيث  باتت واشنطن تعتبرُ إيران أضعف من أن تُبرِم صفقاتٍ، كما نقلت مصادر مقرّبة من إدارة الرئيس جو بايدن، وانطلاقاً من هذا الموقف يمكن فهم استقالة نائب الرئيس الإيراني الجديد وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، المعروف عنه أنه لا يوافقُ على دويلة الحرس الثوري الإيراني في قلب الدولة الإيرانية وطغيانه عليها من جهة، ولا يوافق على تورّط ايران في حربٍ من أجل الفلسطينيين من جهة أخرى، وقد كانت له مواقف منذ فترة ينتقدُ فيها نظام الحكم في إيران ويشكو من إستيلاء الحرس الثوري الإيراني على القرارات والسياسات مع المرشد، علماً أنه استقالَ من منصبه في وزارة الخارجية الإيرانية نتيجة خلافه مع المرشد والحرس الثوري حول تجاوزهم لصلاحياته كوزير خارجية حين استدعوا رئيس النظام السوري بشار الأسد للقاء المرشد من دون علم ولا تمثيل لوزارته …

مصالح نظام الملالي توسّع الفجوة بين واشنطن وطهران

محمد جواد ظريف لا يؤمن بالحروب بل بالتفاوض مع الغرب ولا سيما مع الأميركيين، وهو الذي لعب ورقة الاتفاق النووي التي وقّعت في العام 2015 وكان لا يزال يعتبر أن بإمكان إيران إعادة إحياء الاتفاق، والعودة الى تلك المفاوضات لتأمين المزيد من المكاسب السياسية والمالية والديبلوماسية التي تعود منفعتها على الدولة الإيرانية وتُخرِجها من الحصار والعزلة والعقوبات، ويبدو أنه عندما تم تعيينه مؤخراً نائباً لرئيس الجمهورية الجديد مسعود بزشكيان للسياسة الخارجية أدرك أن المرشد الأعلى والحرس الثوري لن يتركاه يُملي على الرئيس الجديد نظرته ورؤيته لسياسات إيران الخارجية، وهما أي المرشد والحرس الثوري  لطالما حارباه واستبعداه بسبب أفكاره الليبرالية التي لا تخدمُ سياسات ومصالح النظام وحرسه الثوري لا بل تناقضها تماماً، من هنا فإن استقالة محمد جواد ظريف تُشكّل مؤشراً إضافياً على التخبّط الإيراني، وعلى اتساع الفجوة بين إيران والولايات المتحدة، والدليل الإضافي مصادر البيت الأبيض اليوم التي عرضنا ما قالته أعلاه، بالإضافة الى اتساع الفجوة مبكِراً بين المنطق “الدولتي” والمنطق الثوري في إيران.

ولعل محمد جواد ظريف نسي أن كل استراتيجية وجود النظام الإيراني والمرشد الأعلى مبنيةٌ على تصدير الثورة الذي يتولاه الحرس الثوري الى المنطقة، وبالتالي لو اتّبعا رؤيته بعدم الاهتمام بأذرع إيران الإقليمية ووقف التدخّل في شؤون فلسطين والقدس والأقصى، والتركيز على التفاوض مع الغرب من أجل تحقيق مكاسب للدولة الإيرانية لا للثورة الإيرانية، سيفقدُ النظام والحرس الثوري المبرِّر الأساسي لوجودهما، ويسقطهما من أي دور إقليمي وداخلي على السواء.

محمد جواد ظريف تحدّى المرشد والحرس الثوري فخرجَ مجدّداً … بعد استقالته كوزير خارجية سابق، فيما

الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تُعيرُ اهتماماً حالياً للنظام الإيراني وعقد الصفقات معه … وهي تعتبره ضعيفاً …

والحصار العسكري الأميركي والغربي دعماً لإسرائيل في أوجّه …

والانتخابات الرئاسية الأميركية في عز اشتعالها …

وورقتها الفلسطينية تتهاوى …

 إنها عناصر التخبّط … الإيراني لا بل تخبّط النظام … فهل من حالات تصعيدٍ فرعي في مقابل انسداد الآفاق أمام التصعيد العام ؟؟؟

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: