من المُسلّم به أن لا مجال لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلا بإنشاء دولةٍ فلسطينيةٍ أي حل الدولتين، فللفلسطينيين الحق المشروع بدولةٍ مهما كثُرت التأويلات والتفسيرات والاجتهادات من هنا أو هناك، غير أن الوصول الى دولة فلسطينية يتطلّبُ أمرين أساسيين :
أ – إشعار الفلسطينيين بالثقة في إمكانية قيام دولتهم أبعد من الشعارات والمواقف الإعلامية.
ب – إشعار الإسرائيليين بأن الدولة الفلسطينية لن تكون تهديداً وجودياً لهم ولن تكون يوماً محكومة من قوى ومنظمات متطرّفة تريد محو إسرائيل من الوجود.
أخطاءٌ تكتيكية وقرارات إنفعالية
بالأمس، تبنّى الكنيست بهيئته العامة مشروع قرارٍ رافضٍ لإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ ورافضٍ للاعترافات الأُحادية لبعض الدول بالدولة الفلسطينية.
هذا القرار الإسرائيلي أظهرَ جملةً من الأخطاء التكتيكية التي لا بدَّ من إلقاء الضوء عليها :
الخطأ الأول يتمثّلُ بمسارعة دولٍ الى الاعتراف الإعلامي بدولة فلسطينية في لحظة احتدام الصراع المسلّح بين إسرائيل وحماس في غزّة، فهذا الاعتراف الأُحادي من بعض الدول لم يأتِ في سياق منطقي بقدر ما جاء نتيحة ردّات فعل نكاد نقول “إنفعالية” لأنه وبكل بساطة كيف يمكن الاعتراف بدولة فلسطينية ليست موجودة على أرض الواقع ويتطلّبُ وجودها قيام حملة إقناع ديبلوماسية للضغط على الجانب المعرقِل لقيام الدولة لتأتي النتائج سلسة لا بالتحدي كما ظهرت، ما أعطى إسرائيل مزيداً من المحفّزات لرفض تلك الاعترافات الأُحادية والتي بقيت الى الآن مجرد مواقف إعلامية معنوية ليس الا.
فكيف يمكن قيام دولة فلسطينية رغم إرادة إسرائيل ؟ هنا السؤال، إذ لا الولايات المتحدة الأميركية ولا الاتحاد الأوروبي ولا حتى العرب والخليجيين يمكنهم الدفع باتجاه قيام الدولة الفلسطينية إلا من خلال التفاوض مع إسرائيل لا القفز من فوقها والدليل هو قرار الكنسيت بوضع حدٍّ لفكرة قيام الدولة الفلسطينية.
لا ضمانات للجانبَين الفلسطيني والإسرائيلي
الخطأ الثاني يتجلّى في أن المناداة بقيام الدولة الفلسطينية يجب أن يترافقَ مع ضمانات للجانبين : الجانب الفلسطيني بأن تلك الدولة ستكون دولةً موحّدةً لا مشتّتة، وأنها ستكون ذات سيادة ولو منقوصة (غياب السلاح والعسكرة)، وبأن إسرائيل لن تُقدِم يوماً على مهاجمتها واحتلالها مجدّداً لألف سببٍ وسببٍ ….
أما الضمانات التي يجب أن تُعطى للجانب الإسرائيلي فتُختَصر بالدرجة الأولى في ضمان عدم تحوّل الدولة الفلسطينية مع الوقت الى دولةٍ متطرّفةٍ تريد الانقضاض على إسرائيل وتهديد أمنها القومي، وفي هذا السياق اذا نظرنا بتعمّقٍ الى مسبِّبات رفض إسرائيل دولة فلسطينية لوجدنا أن السبب الأساسي هو الخطر الوجودي الذي يمكن أن تعيشه إسرائيل (في مفهوم الإسرائيليين) إن سمحوا لدولة أُنشئت ضعيفة ومفكّكة وغير موحّدة حول رأيٍ واحدٍ، حيث يسود حكم الأقوى و يمكن أن تتحوّل الى دولةٍ معاديةٍ خصوصاً اذا استلمت حكمها فصائل ومنظمات كحماس أو سواها …
خطأ التسرّع في الاعترافات الأُحادية
الخطأ الثالث يكمنُ في التسرّع بإعلان الاعترافات الأُحادية التي عزّزت الى حدٍّ كبير ولو معنوياً استمرار الحرب في غزّة من خلال تعزيز الدوافع لدى حماس وتسجيل مواقف خارجية تعتبرها مؤيدة لحربها وعملية طوفان الأقصى أكثر منها مؤيدة للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني، بمعنى آخر أن الاعترافات الأُحادية بدولة فلسطينية “جُيرت” فعلياً من حماس، بما أعطاها “جرعة حماس” عسكري أكبر، ما أوحى بأنها مدعومة من تلك الدول، وهذا خطأ يمكن وضعه في خانة الأضرار الجانبية إن لم تكن الضرر الأساسي والمباشر.
التطبيع حاجة إسرائيلية أولى
في الوقائع السياسية، يمكن القول إن عملية “طوفان الأقصى” زادت اليقين عند الإسرائيليين باستحالة قيام دولة فلسطينية تتربصُ بهم شراً، فيما عملية “طوفان الأقصى” من الجانب الفلسطيني (سواء كان هناك ثمة إجماع فلسطيني عليها أم لا) زادت من القناعة بأن الاحتلال الإسرائيلي لا يفهم الا لغة العنف والإبادة، وبين هذا المنطق وذاك يكمنُ المأزق الكبير …
وفي هذا السياق، يمكنُ اعتبار عملية التطبيع السعودي – الإسرائيلي حاجةً إسرائيليةً أولى بقدر ما هي حاجةٌ عربيةٌ- فلسطينية لأن التطبيع لو حصل سيشكل بالنسبة للإسرائيليين “درعاً واقيةً” تعزُز أمنهم وضمان أن لا تقوم دولة فلسطينية معادية على حدودهم أو في قلب جغرافيتهم، فضلاً عن تثبيت استراتيجية إقليمية موحّدة في مواجهة الخطر الإيراني .
حرق مراحل وتعويم فرص التسوية
من هنا، نرى أن أية معالجة حقيقية للقضية الفلسطينية ولحلّ الدولتَين يجب أن تنطلق من هواجس الطرفين المعنيَين قبل التسرّع في المواقف التي تحرقُ المراحل ” وتعقّم ” فرص التسوية لاسيما وأننا قد نكون عشية وصول رئيس الى البيت الأبيض اعترف بسيادة إسرائيل على الجولان، واعترف بالقدس عاصمة إسرائيل الأبدية بنقل سفارة الولايات المتحدة اليها ووجه وهو لا يزال مرشحاً تهديداً لحماس بإنهاء مسألة الرهائن قبل دخوله المكتب البيضاوي، من هنا …لا نفعَ مع هذا النهج العمل بالعواطف والانفعالات والمشاعر بل بالحكمة والعقل والتوازن والمنطق، فحتى رمي إسرائيل في البحر … أو إنهائها من الوجود كما وعدَنا محورُ إيران في المنطقة، لا بدَّ من التفاوض مع إسرائيل ولا شيء سوى التفاوض بعيداً عن الرهانات والعنتريات الفارغة، هذا اذا أردنا فعلاً دولةً فسلطينيةً وأردنا فعلاً مصلحة الشعب الفلسطيني … والشرط الأول لذلك هو العمل على تحديث القيادات لدى كلي الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، بعد أن استهلكا كافة أوراقهما وحرقا مراكبهما … ومعهما حرقا غزّة وشعبها … ومعهما حرقا الأمل بحلّّ لقضية عادلة مشروعة ومحقّة …