في وقت تعصف فيه رياح التسويات والسلام والاتفاقيات الإبراهيمية في الشرق الأوسط، يقف اسم لبنان على رأس لائحة التسويات، محط اهتمام أميركي ودولي واسع، فيما تضرب تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن إنشاء المنطقة الاقتصادية في الجنوب طموحات "المقاومة" بعرض الحائط.
وسط هذه التحولات، يبدو أن لبنان لم يعد مجرد رقعة على خريطة الأحداث، بل أصبح مركزاً لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، حيث تتلاقى الخطط الاقتصادية مع الحسابات السياسية، وتتقاطع الاستثمارات الكبرى مع ملفات الأمن والنفوذ.
تصريحات ترامب حول المنطقة الاقتصادية في الجنوب لا تكتفي بالتأثير على الطموحات المحلية، بل ترسل رسائل مباشرة إلى كل الأطراف الإقليمية، مفادها أن المرحلة المقبلة ستشهد إعادة تعريف للسيادة، للسلطة، وللقدرة على استثمار الموارد الاقتصادية في لبنان والمنطقة بأسرها.
في قلب هذا المشهد، تتحرك القوى بحذر، وتراقب التحولات الاقتصادية والسياسية بعين فاحصة، إذ أن كل خطوة في الجنوب قد تحمل معها انعكاسات تتجاوز حدود لبنان لتصل إلى قلب التوازنات الإقليمية. وهكذا، يصبح لبنان اليوم ليس مجرد لاعب، بل مختبر حي للتجارب الاقتصادية والسياسية التي قد ترسم مستقبل المنطقة بأكملها.
في هذا السياق، أشار الكاتب والمحلل الجيوسياسي جورج أبو صعب إلى أن "الرئيس ترامب يحمل مشروعاً تجارياً واقتصادياً يشمل كامل المنطقة، وليس لبنان فقط. لذلك، عندما يشير إلى لبنان ضمن المشروع الاقتصادي والتجاري والإقليمي والعالمي، فهذا يعني أنه يقدّم للبنانيين فكرة عن كيفية إنعاش المنطقة المنكوبة في الجنوب مستقبلًا".
وتابع أبو صعب في حديث لموقع LebTalks: "هذا المشروع يُعد منطقة اقتصادية واردة، لكنه بالطبع ليس ذا أبعاد اقتصادية فقط، بل له أيضًا أبعاد سياسية. وفي النهاية، سيتبع لبنان هذا النهج من ضمن صفقة للسلام الشامل أو التطبيع الشامل في المنطقة، رغم مواقفة الرسمية الآن برفض التطبيع السلام فهذا الشيء قابل للتعديل أو التغيير، مع تغيّر توازن القوى، وإنهاء كل ملفات المنطقة الحربية والشائكة".
أضاف: "من الممكن أن يوافق لبنان على هذا المشروع خصوصاً وأن رئيس الجمهورية جوزاف عون حاول جس نبض "الرياح" الإقليمية التي تميل الآن إلى التسويات والسلام والتطبيع في النهاية، وهذا نوع من رد على الرئيس ترامب على خطابه عندما ذكر لبنان ودعم الرئيس عون بعملية حصر سلاح حزب الله، وبالتالي مرر الرئيس عون رسالته للرئيس ترامب، مفادها أننا مستعدون للتفاوض بطريقة غير مباشرة مع إسرائيل، كما فعلنا في موضوع ترسيم الحدود البحرية لينطبق الشيء نفسه على الحدود البرية، ما يؤدي إلى تطبيق التصور الأميركي بالنهاية للحل والسلام بالمنطقة".
بالنسبة لطرح ترامب عن المنطقة الاقتصادية، قال أبو صعب: "المنطقة بأكملها ستتجه نحو السلام، والمرحلة المقبلة لن تكون مرحلة عسكرية، ولا مرحلة أمنية، ولا مرحلة حربية، لأن المنطقة مقبلة على مرحلة إعمار كبيرة، والقطار انطلق"، مشيراً إلى أن "هذا الموضوع لن يتجاوز عام 2026، وبهذا التاريخ ستكون المنطقة قد بدأت فعلياً ورشة الأعمار والإنماء، وستشمل الاتفاقيات والبروتوكولات التجارية والاقتصادية والمالية الدولية كافة دول المنطقة وشعوبها".
وعن تشغيل اليد العامة لبيئة "الحزب" في المنطقة الاقتصادية، لفت إلى أن "هذا الإجراء جزء من تصور الرئيس ترامب، لكنه لن يشمل العناصر التي لها تاريخ في المعارك مع إسرائيل وأميركا، وخاصة إسرائيل. لذلك، سيتم إبعاد كبار عناصر الحزب أو القياديين عن هذا المشروع، وإبعاد عائلاتهم. ولكن، سيكون هناك تركيز أكبر على الأقل سلبية تجاه المشروع، أي من يتعاون مع المشروع بشكل أكبر".
وبما يخص الإشراف على هذه المنطقة، أوضح أبو صعب في حديث لموقعنا أن "الصيغة لا تزال غير واضحة المعالم حتى الآن ولكن لا شك أن سيكون هناك نموذج مصغّر عن غزة وحكم غزة في جنوب لبنان".
وقال أبو صعب: "لا أعتقد أن ينعدم التنسيق كلياً مع الدولة اللبنانية من خلال الجيش اللبناني بما يخص هذه المنطقة، لكن سيتم فصل هذا الجزء من المنطقة عن كل لبنان وسنذهب إلى "ترانسفير" شيعي إلى العراق واقتطاع جزء كبير من الجنوب".
وأشار إلى أن "منطق الرئيس ترامب، هو منطق رجل أعمال وتسويات وسيسعى دائماً لشراء الجنوب أو غزة أو غيرهما، لكن الوضع بغزة محصن إقليمياً ودولياً أكثر من الوضع بلبنان لأن حتى دول الخليج والأشقاء العرب فقدوا ثقتهم بإمكانية أن يقوم لبنان ببناء دولته بنفسه".
وفي نهاية المطاف، يقف لبنان على مفترق طرق حاسم، حيث لا مجال للخيال أو التردد، بل للقراءة الدقيقة لتوازنات القوى، واستثمار الفرص الاقتصادية والسياسية قبل أن تتحول إلى واقع لا رجعة فيه. ما قد يحدث في الجنوب ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل رسالة للعالم بأن المنطقة قابلة لإعادة ترتيب نفسها، وأن من يمتلك القدرة على التحرك بذكاء واستراتيجية سيحسم مصير النفوذ، السلطة، والمستقبل الاقتصادي لأجيال مقبلة.
لبنان، كما يبدو، أصبح الميدان الذي ستتقاطع عنده مصالح الكبار وصغار اللاعبين على حد سواء، والنتيجة ستكون تشكيل فصل جديد من تاريخ المنطقة.