مما لا شك فيه أن حرب غزّة أثّرت بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ على الحرب في أوكرانيا، بحيث أنها فتحت المجال أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتحقيق انتصارات ميدانية موضعية نتيجة تراجع الاهتمامين الدولي والأميركي بدعم أوكرانيا.
- معضلة ملء الفراغ الأميركي.. أوكرانيا بوابة واشنطن الى كل ملفات المنطقة
مما لا شك فيه أيضاً أن الأوروبيين وجدوا أنفسهم، بغياب الدعم الأميركي ” المعتاد “حَجماً وقوتاً، أمام معضلة ملء الفراغ الأميركي بالقدر المستطاع لولا حزمة الـ61 مليار دولار الأخيرة التي أقرّها الكونغرس الأميركي مؤخراً بغرفتيه ( الشيوخ والنواب)، فضلاً عن آخر المساعدات بقيمة ٤٠٠ مليون دولار منذ أيام معدودة، لكن السؤال يبقى: هل يستمر الدعم الأميركي لأوكرانيا بنفس الوتيرة مع دخول الولايات المتحدة والرئيس جو بايدن والديمقراطيين مرحلة المعركة الإنتخابية؟
ما شهده الكونغرس في إقراره حزمة الـ61 مليار من وحدة موقفٍ بين الديمقراطيين والجمهوريين يُترجم بأمرين أساسيين :
الأول عدم رغبة الجمهوريين في تغليب يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الأوكرانيين قبل الوصول المفترض للرئيس السابق دونالد ترامب الى البيت الأبيض تجنّباً لوضعية يكون فيها بوتين في موقع قوة لفرض ما يريده على الرئيس العتيد وإدارته، الثاني أن أوكرانيا تُشكل موقعاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأميركية لا تريد واشنطن خسارته لأنه يربط أوروبا بالعمق الأوراسي، وصولاً الى العمق الآسيوي شمالاً، فأوكرانيا بوابة واشنطن الى كل ملفات المنطقة المذكورة في مرحلة لاحقة من المواجهة مع الصين وروسيا.
- هاجس بوتين الأمن واستعادة الأمجاد
في هذا الإطار، يجب تسجيل الآتي :
في الجيو سياسة، يجب الأخذ بالظروف والعوامل الراهنة لاتخاذ القرارات ورسم الخرائط وإجراء الاحتسابات ووضع المعادلات، فالرئيس بوتين يتصرّف كقيصر القرن الجديد بأسلوب “إيفان الرهيب “، وهاجسه مزدوج : أمن روسيا واستعادتها لأمجاد الإمبرطورية الروسية السابقة التي انتهت مع سقوط حائط برلين والبريسترويكا والجلاسنوست.
بالنسبة اليه، عندما يخوض حربه ضد أوكرانيا وبغضّ النظر عن المبرّرات الاستراتيجية التي أعطاها ولا يزال من إبعاد “الناتو” عن حدوده ورفض تحويل أوكرانيا الى مصدر تهديد أمني وعسكري مباشر لروسيا الى ما هنالك من مبرّرات، إلا أن الحقيقة هو أنه يخوضها استناداً لفلسفةٍ جيو سياسية تنطلق من أن ما يقوم به عسكرياً عملٌ مشروعٌ لاستعادة أراضي أو شعوب روسية تاريخية، تماماً كما خاض أدولف هتلر حرباً عالميةً ثانيةً على قاعدة حكم العرق الآري للعالم، وقبله الإسكندر المقدوني على قاعدة الحضارة المقدونية التي يجب أن تحكم العالم، وها هو بوتين اليوم أسير هذه الفلسفة وبالتالي أي تراجع أو تليين للموقف سيؤدي الى خسارته هذه الرؤية وهذه الفلسفة، وهذا ما لا يتحمّله لأن إحدى أهم مبرّرات حكمه المتجدّد ستسقط، وهي عظمة روسيا و”استعادة الحقوق”.
- البديل الأفضل عن الإمبراطورية الرأسمالية
بوتين على خطى الأمبراطورة “كاترين العظمى” التي قالت يوماً إنها لو عاشت مئة عام لكانت أخضعت أوروبا وضربت عنجهية الصين وفتحت باب التجارة مع الهند … وقد رأت في حينه أن الطريقة الوحيدة للحفاظ على الأمن القومي للإمبراطورية الروسية تكمن في التوسّع الجغرافي والجيو سياسي، فبوتين ينتهج نفس المنطق ونفس النظرة لأمن بلاده مع الفارق أن زمن الأمبرطورة كاترين العظمى مختلف تماماً عن زمننا الحالي على الصعد السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والتجارية والدولية كافة كنظام عالمي وإقليمي متعدّد الدول السيّدة المستقلّة والمتحالفة مع قوى عالمية أخرى.
روسيا بوتين اذاً أمام هذه الحسابات، ولذا نراه يتصرّف في سياسته الخارجية، سواء مع أوكرانيا أو أوروبا أو حتى الشرق الأوسط وأفريقيا، وكأنه البديل الأمبرطوري الأفضل عن الأمبرطورية الرأسمالية ” الآخاذة “الأميركية والغربية.
- أخطار تتهدّد موسكو من سيبيريا الى أقاصي أوروبا
يمتدُّ وجود روسيا حالياً على مساحة 11 منطقة زمنيّة ضمن الدولة الواحدة، وهي محميّة من سيبيريا شرقاً، فيما الشمال الأوروبي ممرّ التهديد والهجمات، فمن أقاصي أوروبا الى موسكو لا حواجز طبيعية، ومن هذا الشمال تهدّدت روسيا من قبل ملك السويد تشارلز الثاني عشر ومن نابوليون، الى هتلر وظاهرة تهديد ستالينغراد، وصولاً الى الخطر المغولي من دون أن ننسى خطر الفايكينغ الشماليين الذين غزوا روسيا رغم تقارب العادات والتقاليد مع سكان روسيا القدامى.
فلسفة الرئيس الروسي الأيديولوجية هي اذاً مزيجٌ من عبر المعضلة الجيوسياسيّة الروسيّة في جغرافيتها و ديموغرافيتها وطوبوغرافيتها، ولذا يبرزُ التهديد الأوكراني للروس، فضلاً عن كونه مبني على استراتيجيات التحالف مع “الناتو” والأميركيين والأوروبيين، فهو قبل أي شيء تهديد مباشر للأمن القومي الروسي، ولذا ومن وجهة نظر بوتين يجب محو التهديد من أساسه، الأمر الذي ورغم بعض الانتصارات والتقدم على بعض الجبهات؟ ليس يسيراً لموسكو والرئيس بوتين.
- عندما خسرت روسيا عوازلها تجاه أوروبا الغربية
جيو سياسياً، الرئيس بوتين محتجزٌ في قفض ” ضرورات وجودية ” ولذا فهو يتشدّد أكثر في الداخل كما في الخارج، ففي الداخل استخبارات قوية وأجهزة نوعية لاضطهاد معارضيه وصولاً الى قتلهم، وفي الخارج حربٌ عسكرية مباشرة ودخول معترك تحدّي القوى الكبرى في عقر دارها كما في أفريقيا والشرق الأوسط، وبذلك بات النظام السياسي في روسيا شيئاً ممتزجاً ما بين الإمبراطوريّة والاشتراكيّة و الجمهوريّة في آن لكن في ظل حكم الفرد الواحد ؟
كذلك يسعى بوتين لتأمين أمنه القومي جنوباً عبر استراتيجية العوازل في جنوب القوقاز، وقد اندرجت حرب الشيشان في هذا السياق وتدخّله مؤخراً في صراع ناغورنو قره باغ- أرمينيا، فالتدخّل العسكري في جورجيا.
الرئيس بوتين يسعى الى الاحتفاظ بمناطق نفوذ جنوب – شرق روسيا ولذلك لم يتوانَ عن التدخّل المباشر في كازاخستان، لكن همّه الأكبر يبقى إنشاء منطقة عازلة بينه وبين الغرب بدءاً من أوروبا الغربية، وهنا يبرزُ الموقع الأوكراني جغرافياً واستراتيجياً، فقبل سقوط حائط برلين كانت دول أوروبا الشرقية تفي بغرض الحائط العازل لا بل المانع والمنيع ضد أي توغّل لخطرٍ غربي يُهدّد الأمن القومي الروسي، إلا أن سقوط الكتلة الشرقية ومن ضمنها أوكرانيا في رحاب الليبرالية الغربية هدّد مباشرةً، من منظار الرئيس بوتين، أمن روسيا القومي المباشر،
ففضلاً عن خسارة روسيا كتلتها ” الحمائية والوقائية “، فقد فقدت وفقاً لرؤيته الدرع الشرقي الحامي الذي أثبت فعاليته أثناء الحرب الباردة، مع ما أمّنته لروسيا من توسّعٍ جغرافي وتنعّمٍ بثروات طبيعية ضخمة، ومع سقوط هذا الدرع الشرقي الأوروبي خسرت موسكو عوازلها تجاه أوروبا الغربية والأميركيين من لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي وتوسّع حلف شمال الأطلسي (ناتو) باتجاه روسيا شرقاً.
- بوتين الرهيب والحماية العازلة
من منطلق كل التحليل أعلاه، فإن الرئيس بوتين أو “بوتين الرهيب” يحاول جاهداً وقد نجح في قسم من مسعاه الى تأمين الحماية ” العازلة ” لروسيا في الشمال الشرقي عبر تطويعه بيلاروسيا، فيما يحاول تأمين الحماية ” العازلة ” له شرقاً عبر السيطرة على أوكرانيا أو على الأقل تحييد خطرها عنه أوروبيا وأطلسياً وعسكرياً، فما الدونباس ودونتسك الا مناطق عازلة في مواجهة الغرب انطلاقاً من أوكرانيا،
من هنا يمكن الاستنتاج أن أمام الغرب حلٌ من أمرين لا ثالث لهما: إما منح الرئيس بوتين شرق أوكرانيا، ما يشكّل رصاصة رحمة للنظام العالمي وسقوط الليبرالية الغربية بمبادئها وأسسها وقواعدها فضلاً عن سقوط القانون الدولي بشكل مريع، وإما التوصّل الى تفاهمات تبقي سيادة أوكرانيا غير منتقصَة ومعها سيادة القانون الدولي والعلاقات الدولية غير “متأذية ” بشكل دراماتيكي.
أما الحرب فهي تبقى احتمالاً وارداً، لكن أخطر الاحتمالات لأنها ستأتي على كل شيء والى أبعد من أوكرانيا نفسها.
وبالانتظار، يتخبّط الرئيس بوتين يميناً ويساراً خبط عشواء علّه إن لم ينجح بأن يحتلّ مكانته من بين الدول الكبرى، فأنه على الأقل ينجح في أن يكون قوة شغب ومشاكسة دولية “تخربط كل الحسابات وتذهب عكس الآجماع الدولي في الملفات الحساسة، فيما أوكرانيا تبقى بانتظار نخوة ومساندة حلفائها.