الردّ الإيراني في الميزان الجيوسياسي: مسرحية “باهتة” بلا غالب ولا مغلوب

الثوري-الايراني

أبرز ما يمكن استخلاصه من الردّ الإيراني حتى الآن:

– أولاً: نجاح السيناريو الأميركي في ضبط الردّ ومحدوديته، بحيث لم تُسجّل إصابات إسرائيلية في الأرواح ولا في العِتاد، ولا في المواقع العسكرية التي قالت طهران إنها استهدفتها، بعدما تم التصدي ل 99% من الصواريخ والمُسيّرات قبل بلوغها أهدافها، وتجنيب إسرائيل خسائر كبيرة.

– ثانياً: الردُّ الإيراني كان إعلامياً أكثر منه عسكرياً فعلياً، وقد تجلّت هذه الصفة “الباهتة” في الإبلاغ مسبقاً عن وجود ردٍّ وإطلاق مُسيّرات وصواريخ وغياب عنصر المفاجأة، وبعدها السرعة في الإعلان عن انتهاء العملية، ما يُظهِر بوضوح وجود حسابات دقيقة للردّ مضبوطة وسريعة منعاً لانفلاش الأوضاع وأخذها الى تصعيدٍ أوسع،

والجدير ملاحظته أن “حزب الله” في جنوب لبنان والحوثيين في اليمن، شاركا بشكلٍ أقل حدّةً من المتوقّع للإسهام في إظهار قوة ردعٍ إيران إعلامياً أكثر منه إظهار قوتهم المسانِدة.

– ثالثاً: أثبتت العمليات قوة التحالف الغربي في المنطقة وعلى رأسها الولايات المتحدة فبريطانيا وفرنسا وسواها وقدراتها العملياتية بما ينفي نظرية الوجود الغربي العسكري من أجل الضغط الديبلوماسي فقط، بحيث أن هذه القوة الغربية في المنطقة، عبر قواعدها ومقاتلاتها وأساطيلها، دخلت عملياً في المعركة للتصدّي للصواريخ والمُسيّرات، وبالتالي الدفاع عن إسرائيل وحمايتها.

– رابعاً:  الدعم الأميركي الغربي العسكري والميداني المباشر أسقط فكرة الدعم الديبلوماسي والإعلامي فقط لإسرائيل، إذ إن هذه المشاركة الفاعلة للغرب في تصدّي إسرائيل للهجوم الإيراني يجعل إسرائيل وتحديداً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته في موقفٍ استراتيجي قوي من خلال الاستناد للدعم الغربي الحليف والأميركي تحديداً لإسرائيل، ما سيسمحُ لإسرائيل باستثمار هذا الدعم في أكثر من ملف وعلى أكثر من محور.

فإسرائيل تتباهى بجهوزية الغرب وتستغل الهجوم الإيراني “لشيطنة” إيران  وتصويرها بأنها تقود الإرهاب في الشرق الأوسط، ما قد يعطي إسرائيل دفعاً للعمل في تشكيل تحالف دولي ضد إيران .

– خامساً : أثبت الهجوم الإيراني أن الردّ كان رسالة سياسية أكثر منها عسكرية، والدليل الإصرار الإيراني أثناء تنفيذ الضربات الصاروخية وحتى الساعة على وصف الردّ ” بالمحدود “، ومسارعة القيادة والديبلوماسية الإيرانية الى إعلان الانتهاء من العملية في وقت كانت أجواء الأردن وسوريا ولبنان تشهد معركة تصدٍّ للصواريخ والمُسيّرات، بحيث لم تنتظر طهران سقوط كل مُسيّراتها وصواريخها لتُعلن انتهاء العملية بل أعلنت انتهاءها أثناء الضربات، وذلك في رسالة واضحة الى عدم رغبة إيران في توسيع الصراع والمواجهة وعدم الرغبة في استجرار ردٍّ إسرائيلي .

– سادساً : الدهاء والحنكة الأميركية في لعب واشنطن دور الحَكَم والطرف في آن، من خلال الوقوف  مع إسرائيل عسكرياً وميدانياً في التصدّي للصواريخ والمُسيّرات وتعبيراً عن الالتزام الأميركي الثابت بأمن إسرائيل وسلامة أراضيها، كما عبر رسم الخطوط الحمر للردّ الإيراني ” المدوزَن ” ورفض ردّ إسرائيل على الردّ الإيراني، وهو ما يؤكد ما سبقَ أن كتبناه مراراً من أن الردّ الأميركي كان يُطبخ في المطبخ الأميركي وأن لا إيران ولا أميركا تريدان حرباً شاملةً في المنطقة، إذ إن إدارة بايدن تحاول التوفيق بين الدعم لإسرائيل وعدم السماح بانخراط إسرائيل ومع اسرائيل ضد إيران في مواجهة موسّعة.

ولذا نرى واشنطن في الموضوع الإيراني  حذرةً ومقيِّدةً لإسرائيل عكس دعمها المطلق لها وإطلاق يدها في غزّة.

– سابعاً : في الحسابات الجيو سياسية، إسرائيل  “المُعتدى عليها ” من إيران نجحت في الساعات القليلة الماضية في استرداد صورة الدولة والشعب المهدّدَين، ما سيسمح لليمين المتطرّف بالضغط على بنيامين نتنياهو بالسير في الردّ على إيران بقوة كما حصلَ غداة 7 تشرين الأول 2023 إثر الاعتداء “الحمساوي” على إسرائيل من القطاع واستغلال التعاطف الدولي معها لشنّ الأخيرة حملتها الشعواء على القطاع، فهل تعلّمَ رئيس الوزراء الإسرائيلي من التجربة الأولى لمنع تكرارها بشكل يوسِّع الحرب الإقليمية؟

الأكيد حتى الساعة أن أي مسؤولٍ في حكومة الحرب لم يتلفّظ بما يفيد قرار إسرائيل بالردّ على الردّ الإيراني إلا أن الأمور تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات ومنها الردّ الإسرائيلي عبر تسخين الجنوب اللبناني ومضاعفة القصف وتوسعته أو الردّ في سوريا عبر المزيد من الغارات أو … واذا اعتمدت حكومة الحرب نفس نهج الردّ على “طوفان الأقصى” بالذهاب بعيداً الى حدّ ضرب إيران مباشرةً، ولو أن هذا الاحتمال حتى الآن غير مطروح بسبب الرفض الأميركي القوي.

وهنا نلاحظ أن توقيت الضربة الإيرانية أمس جاء في لحظة كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يمرُ بتجربة داخلية قوية تمثّلت في دعوة المعارضة لمناصريها النزول الى الشارع للمطالبة بإنجاز صفقة الرهائن وحصول تظاهرات خلال فترة بعد الظهر ضد نتنياهو وحكومته، تماماً كما جاء “طوفان الأقصى” في لحظةٍ حرجة لرئيس الوزراء الإسرائيلي داخلياً وإقليمياً أخرجته من دائرة السقوط والاستهداف والتركيز على التطبيع.

– ثامناً : لأول مرة، تُستَهدفُ إسرائيل مباشرة من إيران وبالمباشر من الأراضي الإيرانية وليس من دول إحدى “ساحات المشاغلة والمساندة”، ما يعني أمرين أساسيين :

-الأول : سقوط الخطوط الحمر الإقليمية التي كانت تُركّز على معادلة محاربة إسرائيل بالواسطة وردّ إسرائيل بالمباشر على الميليشات الإيرانية في لبنان وسوريا، بحيث باتت الأهداف بين الدولتين متاحة في عمق كل واحدة وهذا أمر خطير جداً.

-الثاني : رفع معنويات محور المقاومة وإشعار الوكلاء بأن إيران قوية وقادرة على تغطيتهم ودعمهم، فهل تتخذها إسرائيل حجةً إضافية لتوجيه ضرباتها الى الداخل الإيراني؟ 

طالما أن واشنطن بالمرصاد لتل أبيب، فالأمر مستبعدٌ إلا أن قواعد الاشتباك الإسرائيلي- الإيراني تغيّرت بالتأكيد لكن سياسياً حتى الآن اكثر منه عسكرياً، فهل تستغل إسرائيل هذا التغيير في قواعد الاشتباك لتهديد إيران باستهداف برنامجها النووي اذا ما فشلت التسويات الأميركية مع الإيرانيين؟

– تاسعاً : أثبتت وقائع الردّ الإيراني بشكل واضح، المدى الجغرافي الذي سيتأثّر اذا ما اندلعت مواجهة إقليمية بتداعياتها : سوريا- لبنان- وبخاصة الأردن …

وبالتالي كل التركيز في المرحلة المقبلة سيكون على تلك الدول الثلاث  بالإضافة الى إسرائيل وفلسطين طبعاً. 

– عاشراً : الهجوم الإيراني خدمَ إسرائيل ونتنياهو خدمةً كبيرة في استمرار لا بل مضاعفة التسليح الغربي لإسرائيل وبخاصة الأميركي نتيجة استنفار الكونغرس للوقوف الى جانب إسرائيل أكثر من أي يومٍ مضى مستبدلين الضغط عليها بالضغط من أجلها، علماً أن الهجوم سيدفع باتجاه تسريع إسرائيل حسم ملف رفح والقضاء على الآلة العسكرية لحركة “حماس” في غزة .

– حادي عشر : أثبت الهجوم الإيراني أن غزّة في آخر سُلّم أولويات القيادة الإيرانية، إذ إن الهجوم جاء ردّاً على استهداف إسرائيل المبنى القنصلي في دمشق لا لنصرة غزّة، وهذا ما أكدته التصاريح والبيانات والمواقف الإيرانية قبل وأثناء وبعد العملية، وبالتالي بهجومها أمس حرف الانتباه عما يجري في غزّة وتمَّ إلهاء الرأي العام عمّا يجري في القطاع،  فإيران وضعت الهجوم في إطار الردّ الانتقامي لا في إطار نُصرة غزّة، وهو خط أحمر أميركي لصالح إسرائيل تحترمه طهران ولا تسعى لخرقه.

– ثاني عشر : مرة جديدة، تعمدُ إيران الى إطالة عمر نتنياهو السياسي وحكومته بتسليمها أوراقاً إضافية لمواجهة الرأي العام الداخلي الضاغط على الحكومة الإسرائيلية لحملها على التوقيع على  اتفاق مع حماس أو على مواجهة حملات الامتناع عن الالتحاق بالخدمة العسكرية برفض الالتحاق بالجيش الإسرائيلي، وأهم تلك الأوراق أن إسرائيل في حالة تهديد وجودي مجدّداً، ومن دولة هي إيران هذه المرة لا من ميليشيات حماس والجهاد الإسلامي، وهو أول تهديد خارجي ملموس تواجهه إسرائيل، ما يستوجب تضافر وتضامن كل إسرائيل وإسكات الأصوات المعارِضة للحكومة ولبنيامين نتنياهو نفسه.

– ثالث عشر : بموازاة رفع معنويات المحور الموالي لإيران كما سبق وذكرنا أعلاه، فإن الهجوم الإيراني بضبطه وانضباطه فتحَ أكثر فأكثر أمام ميليشيات إيران، وفي طليعتها حزب الله، أبواب التعرّض للانتقام الإسرائيلي، ما سيصعّد أكثر فأكثر العمليات الإسرائيلية على لبنان بحجة تهديد إيران لأمن إسرائيل عبر حزب الله اللبناني، وانتهاج حكومة الحرب منطق الحسم العسكري بدل الضغط الديبلوماسي.

 – رابع عشر : بعد الهجوم على إسرائيل، سترفع إيران سُلم مطالباتها وسقف ثمنها لأية حلول في المنطقة، والخشية أن تستجيب الإدارة الأميركية الديمقراطية الضعيفة لهذا الضغط الإيراني فيتمُّ السماح بترسيخ نفوذها الإقليمي في دول المحور، إلا اذا تمكّنت إسرائيل من الدفع باتجاه إسقاط نظام الملالي، الأمر الذي دونَه عقبات ليس أقلها العامل الروسي الذي سيتحرّك أن تعرّضت إيران للخطر .

باختصار أمن الوجهة الجيو سياسية أنهت المسرحية بلا غالب ولا مغلوب وإن كان ثمة كلام آخر بالسياسة….

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: