كتب جورج أبو صعب: يوماً بعد يوم وساعةً بعد ساعة، يتأكد للرأي العام العربي والرأي العام الدولي أن الزلزال الذي ضرب سوريا وأسقط نظام الإجرام والطغيان والاستبداد ليس موجةً عابرةً بل هو تأسيسٌ فعلي لسوريا جديدة ونظام سوري جديد ينبت من تربةٍ سوريةٍ وطنيةٍ جامعة.
مما لا شك فيه أن الوقت لا يزال مبكراً للحسم في أي اتجاه ستسلكه الأحداث في سوريا، لكن الأكيد والنهائي أن سوريا كما لبنان كما الأردن كما العراق كما إسرائيل نفسها أمام مرحلةٍ جديدةٍ وصفحةٍ جديدةٍ تنطلقُ من سوريا لتعمَّ المنطقة وشعوبها.
ثلاث وقائع لفتت الانتباه في خلال الأيام العشرة بعد رحيل “سفاح دمشق” بشار الأسد ونظامه ولكل واحدةٍ منها مدلولاتها وخلاصاتها.
الواقعة الأولى هي قيام إسرائيل، وعلى مدار الأيام الأولى بعد سقوط النظام الأسدي، بقصفٍ متتابعٍ لكافة مواقع الجيش السوري الحساسة، من مخازن أسلحة الى مواقع صاروخية الى مصانع سلاح وسواها، ما أثار بدايةً التساؤلات الى أن أمكن فهم الذي حصل واختصاره بأن عمليات القصف الإسرائيلي أثبتت كم أن نظام الأسد المخلوع كان ضمانةً لإسرائيل وأمنها من الأب الى الإبن، حتى عندما رحل بشار الأسد رأت اسرائيل نفسها مكشوفةً أمنياً وعسكرياً أمام مرحلةٍ إنتقالية غير واضحة المعالم وسلطة جديدة في دمشق لم تتبلور فصولها بعد، فعمدت بالتالي الى تدمير المواقع الاستراتيجية والعسكرية والتسلحية بموازاة دخولها مجدّداً المنطقة المعزولة في الجولان والتي كانت محمية باتفاقيات فصل القوات بين سوريا وإسرائيل للعام ١٩٧٤.
الواقعة الثانية هي مواقف أحمد الشرع (الجولاني) المعتدلة والمتوازنة، ومن أبرز أقواله وتصاريحه عدم محاربة إسرائيل واللجوء الى القانون الدولي والمواثيق والقرارات الدولية، فضلاً عن إقراره بخصوصية النسيج السوري والانفتاح على جميع مكونات المجتمع السوري وغياب أي منطقٍ للانتقام والتشفي من أحد وتطبيق الدستور والقانون وتحقيق العدالة والمساواة بين جميع السوريين، وما الى هنالك من مواقف “موزونة ومعتدلة ومنفتحة” وصولاً الى وصف مرحلة انضوائه تحت عباءة القاعدة بالأمر الماضي، ومشدّداً على الأخوّة بين أبناء الشعب السوري ورفضه تقسيم سوريا، مسدّداً في مرمى الشعب السوري تقدير مصير سوريا ونظامها وما الى هنالك.
الواقعة الثالثة هي دولية، تبدأ بالموقف الروسي المهادن والمتعاون مع السلطات السورية الجديدة في دمشق ولا تنتهي بانسحاب القوات والسلاح والسفن الروسية من موانئ طرطوس ومطار حميميم، مروراً بمواقف الرئيس بوتين المعترِفة بما حصل في سوريا من إسقاط نظام الأسد وزيارات وفود أميركية لأحمد الشرع وتهافت الإعلام الغربي على ملاقاته واستصراحه في “نيو لووك” يعكس طبيعة الدور والمرحلة والمواصفات لذاك القائد العسكري الذي نجح في نهاية المطاف مع تنظيمه “أحرار الشام” في تحرير سوريا من نير العبودية والطغيان والإجرام، وأعاد للسوريين من مختلف الطوائف والمشارب والانتماءات والإتنيات والمذاهب الأمل بالمستقبل والحرية والدولة المعاصرة المبنية على العدالة والمساواة والإنماء والتطور، الدولة التي طالبوا بها منذ العام ٢٠١١ فقمعَهم نظامٌ مجرمٌ ومستبدٌ ودموي بحجة الإرهاب الواهية التي كان هو أبرز المتسبّبين به.
انطلاقاً من هذه الواقعات الثلاث الواردة أعلاه، يمكن استخلاص كيف أن سوريا حالياً ممسوكةٌ ومضبوطة الإيقاع الثوري، وزيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركية بربرا ليف للشرع على رأس وفدٍ أميركي مؤخراً وإعلان واشنطن إلغاء جائزةٍ كانت مرصودة للقبض على الجولاني، وبالتالي فإن ما حصل وما سيحصل هي فصول من اتفاقاتٍ وتفاهماتٍ أميركية- روسية- تركية- إسرائيلية لإعادة ترتيب الوضع السوري الذي كان قد بلغ نقطةً خطيرةً جداً على سوريا نفسها كما على مجمل المنطقة.
وللملاحظة، فإن أحمد الشرع ليس “أخوان مسلمين” بل هو سَلَفي ووالده كان يعيش في السعودية وقد يكون هذا سببٌ من بين الأسباب لالتقاء السعودية وتركيا على دعم ثورة الشرع، فضلاً عن الدعم الأميركي ومن خلاله الدعم الكردي لأن الأكراد يرون في الشرع رجل الحوار الممكن التوصّل معه الى نتائج تحدّدُ مستقبل سوريا بالاتجاه الصحيح، وفي سياق الذكر فإن أكبر انتصارٍ للسعودية كان خروج الأخوان المسلمين من مصر كما وخروج إيران من سوريا بعد سقوط النظام الطاغية.
مهما يكن من أمر، فإن سقوط نظام الأسد في سوريا كسر نهائياً الهلال الايراني الصفوي الشيعي في المنطقة، ما سيتيحُ تحقيق الاستقرار في سوريا والمنطقة على المدى المتوسط والطويل.
قلناها ونكرّرها، المنطقة دخلت حقبةً دوليةً جديدة بإسقاط حماس وحزب الله وإسقاط الأسد وضرب الحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق، وصولاً الى ضرب الرأس في إيران اذا لم يقبل بالشروط الأميركية الجديدة في الملف النووي، كل هذه هي السلسلة الجيو سياسية للشرق الأوسط الجديد.
في سوريا، حكومة إدلب التي تحكم سوريا لمدة ٨٠ يوماً حتى شهر آذار المقبل ستتولّى تحسين الخدمات والإمدادات الحيوية من بنى تحتية وسواها، فالمناطق العلوية باتت تأتيها الكهرباء ٤ ساعات بدل ساعة أيام الأسد وفي عزّ حكمه.
أحمد الشرع يريد تنفيذ روحية القرار ٢٢٥٤: أمن واقتصاد وهما معياري سياسته الآن، وقد وضعت تركيا كل ثقلها في الملف السوري وأي عرقلة للشرع ستواجهها تركيا خصوصاً وأن الرياض تقف مع الحكومة الحالية بعدما تحقّق كسر الهلال الإيراني وبات نفوذ طهران الإقليمي على المحك.
سوريا مع أحمد الشرع متجهةٌ نحو عودة المعارضين الى سوريا بالتزامن مع تكوين جيش منظم وإعادة هيكلة المخابرات السورية وتأمين الخدمات وتوثيق العلاقات الدولية وفقاً لمعايير دولة قائمة بمقوماتها كافة، وبالنسبة للاكراد فإن المفاوضات بين “قسد” والثورة برعاية أميركية قد فُتحت وثمة ارتياح تركي- أميركي للتنسيق بينهما، فحركة الأكراد في سوريا لطالما كانت ضد إيران، الأمر الذي يقوّي الموقع والدور الكرديين بحيث لن تستطع تركيا اجتثاث الوجود الكردي لأنهم بالنهاية سوريين وسوف يلتحقون بالعملية السياسية وهم مدعومين من أميركا والتحالف الدولي في المنطقة.
يبقى أن الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة تبقى المحك الحقيقي لنجاح الثورة في سوريا ونجاحها خصوصاً في إعادة بناء دولة قانون ومؤسسات، فيما واشنطن متجهة بعد إسقاط ملاحقتها للشرع كإرهابي نحو رفعٍ جزئي للعقوبات وبالتدرّج بعدما زال سبب تلك العقوبات، ولا بدّ لسوريا أن تتنفّس الصعداء لاستكمال مخطط جرّ المنطقة الى السلام والاستثمار والتنمية.
الموعد المقبل بدأ مع الحوثي، وواشنطن لن تألو جهداً في سبيل إسقاط الورقة الإيرانية في اليمن، وهي تشنُّ ضرباتٍ قوية ضد الحوثي، وقد نفذ الجيش الأميركي ضرباتٍ قوية وقاسمة منذ أيام ضد الحوثيين في ما يشبه الإنذار الأخير قبل فوات الآوان.
يبقى أن ثمة مطالبة كبيرة حالياً من ضمن أروقة القرار الأميركي الجمهوري لضرب إيران مجدّداً خصوصاً بعدما نجحت إسرائيل مؤخراً خلال هجومها الأول في تصفية المنظومات الدفاعية وضرب أذرعها في المنطقة، إلا أن ساعة ضرب إيران لم تأتِ بعد، وإن كان الأصبع على الزناد في واشنطن وإسرائيل لكن بعد عرض اتفاق نووي جديد يُقبل او يُرفض من دون تجزئة.