ما حصل بتاريخ ٩ من الشهر الجاري في الدوحة يمكن تسميته بالانقلاب الجيوسياسي المهول لمعادلات كانت قائمة بين مختلف الأطراف المعنية بالتفاوض حول غزة، بحيث إن بعضًا من تداعيات هذا الانقلاب تجاوزت موضوع غزة ليطرح دور الولايات المتحدة في المنطقة مع حلفائها التقليديين في منطقة الخليج.
بدايةً، دعونا نشير إلى أن ما حدث في التاسع من أيلول من اعتداء على سيادة دولة خليجية سجّل سابقة خطيرة جدًا وفريدة من نوعها؛ إذ إنها المرة الأولى منذ قيام إسرائيل يتم فيها الاعتداء العسكري على دولة خليجية، وليس أيّة دولة: قطر، التي صنّفها الأميركيون أول حليف للناتو من خارج المنظومة، والحليف الأول للولايات المتحدة في عهد الرئيس جو بايدن. قطر التي تملك أكبر قاعدة عسكرية أميركية وللتحالف الدولي في المنطقة، والتي تحتضن قيادة المنطقة الوسطى الأميركية، وقطر التي لطالما لعبت أدوار الوساطة في الملفات الإقليمية الشائكة لصالح الأميركيين وبناءً على طلبهم، على غرار الملف الطالباني وملف السودان وملف لبنان وسواها من الأزمات الكبرى.
كل هذه الخصائص الجيوسياسية لم تشفع في منع إسرائيل من تنفيذ ضربتها، وإن كانت موجهة لقادة “حماس”، ولكن على الأرض القطرية.
من هنا يمكن تسجيل الآتي:
أولًا: من الواضح أن الحسابات، لا بل النهج الأميركي الحالي، ليس كسابقاته مع عهود الرؤساء الأميركيين السابقين. فمع دونالد ترامب الحسابات والموازين والمعادلات مختلفة؛ فنهج هذا الرجل وإدارته لا يقف عند أي تدوير للزوايا ولا عند أي تسوية لا تناسبه وتناسب إدارته، وهو يملك قدرة سياسية هائلة في التوفيق بين التحالف والصداقة ومصالحه ومصالح واشنطن التي تأتي لديه في المرتبة الأولى.
الرئيس ترامب، لمن يتابع مواقفه وتغريداته، أطلق تحذيرًا قبل ٩ أيلول بثلاثة أيام موجّهًا إلى “حماس” من مغبة عدم الالتزام بخطته لوقف النار، وقد أعلن التزام إسرائيل بشروطه محذرًا من عواقب عدم قبول مبادرته، معتبرًا التحذير الأخير لحماس. وتقضي خطة ترامب بإطلاق “حماس” جميع الأسرى لديها دفعة واحدة، وجلوس الإسرائيليين وقيادة “حماس” على طاولة التفاوض بعد ذلك لرسم اتفاق قد يستغرق وقتًا لإبرامه بين الطرفين، ويضمن ترامب لحماس عدم حصول أي عمل عسكري إسرائيلي ضد غزة طالما المفاوضات مستمرة.
وبعد الضربة الإسرائيلية على الدوحة عاد الرئيس الأميركي، في تغريدة أخرى له، ليقول إنه سبق وأبلغ حماس أن هذه هي الفرصة الأخيرة، وعليهم الالتزام بها، لكنهم لم يستمعوا، كما جاء في تغريدته.
والحالة هذه، أليس من الممكن اعتبار الضربة على الدوحة بمثابة ضربة أميركية بيد إسرائيلية؟
ثانيًا: بعدما سحبت تركيا ومن ثم مصر يدها من ملف “حماس” في القطاع، بات من الواضح أن قيادة الحركة الحالية، بعد اغتيال إسماعيل هنية، خرجت من أي ثقل سياسي مؤثر على مسار الأحداث، ولا هي في وارد تقديم أي تصور حل للقطاع سوى المزيد من الدم والمأساة والجوع لأهل غزة.
والحقيقة تُقال: إن دولة قطر تلقفت كرة نار “حماس” بنية حسنة لمحاولة مساعدتها على الخروج بتسوية تفاوضية مقبولة، لكن رفض قيادة الحركة طرح الرئيس ترامب ومبادرته قلب كل المعطيات وكشف “حماس” عسكريًا… حتى في الدوحة. وهذا ما يعني أن المنطقة أمام مفترق استراتيجي وجيوسياسي جديد، قوامه الخيار بين معسكر واشنطن والأوروبيين وإسرائيل من جهة، وبين محور الصين وروسيا وإيران من جهة أخرى. فلم تعد مقبولة لدى الرئيس ترامب سياسات الكيل بمكيالين ولا السياسات الرمادية “إجر بالبور وإجر بالفلاحة”.
مع ترامب، المنطقة أمام ليس فقط نظام إقليمي جديد، بل أمام منطق جيوسياسي جديد مبني على استباحة أي سيادة، حتى لو كانت لحليف أو صديق، إذا ما كانت لواشنطن مصالح تأتي في الأولوية، ولو على حساب سيادة هذا الحليف أو الصديق، ولو على مسافة أشهر من زيارة ترامب للخليج وللدوحة تحديدًا.
ثالثًا: غداة الضربة الإسرائيلية على الدوحة، وجّه الرئيس دونالد ترامب وزير دفاعه للتوجه إلى الدوحة لتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع دولة قطر، مؤكّدًا أن الاعتداء لن يتكرر ضدها.
هذا الموقف الأميركي إن دلّ على شيء، فعلى أمرين بالغي الأهمية:
1. وضع الدوحة في موقف لا خيار أمام قيادتها سوى السير في إبرام الاتفاقية، وبالتالي تخليها بصورة غير مباشرة عن الدور الوسطي الذي لطالما اضطلعت به بحكم علاقاتها مع الإيرانيين ومنظمات الإسلام السياسي من جهة، ومع الأميركيين وحلف الناتو من جهة أخرى.
2. قد تكون المرحلة المقبلة مفتوحة على أحداث وتحولات جذرية في السياسات القطرية الخارجية بالاصطفاف نهائيًا مع متطلبات الدفاع المشترك مع الأميركيين، بعدما ثبت أن وجود أكبر قاعدة عسكرية أميركية وقيادة المنطقة الوسطى لم يعد كافيًا لحماية الدولة من الاعتداءات الخارجية، خاصة من الحليف الإقليمي الأول لواشنطن، أي إسرائيل.
وبالتالي، فإن خسارة قطر لدورها الوسيط أو المعتدل مع الإيرانيين وفي سائر ملفات المنطقة، وإعادة تموضعها، سيخلط أوراقًا كثيرة ستكون لها تداعيات جوهرية على أكثر من ملف إقليمي وعلى أكثر من صعيد جيوسياسي خليجي وإقليمي.
ضربة خرقت سيادة دولة خليجية… ستقلب المعادلات وتعيد الحسابات وتخلط الأوراق في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة.