لم تعد الاعتداءات على سكك الحديد مجرد تفاصيل منسية في بلد اعتاد الفوضى. اليوم، يمكن القول إن القطار انطلق فعلاً، وهذه المرة على سكة القانون، بعدما بقي هذا المرفق الحيوي خاضعاً لاستباحة كاملة طوال نصف قرن. الخط الحديدي تحوّل خلال العقود الماضية إلى مساحة محتلة، تبنى فوقه المحال التجارية والغرف السكنية، وتُنظم داخله حلقات "تأجير" غير شرعية، يتوارثها الأفراد من هالك إلى مالك، بلا حسيب أو رقيب. بعض هذه التعديات كان محمياً بغطاء حزبي أو بواقع سياسي وأمني منع الدولة من الاقتراب من أملاكها.
التحرك الحاسم بدأ من عاريا، حيث أعيد فتح السكة بعد إزالة تعديات ضخمة تراكمت لسنوات. واليوم تمددت العملية إلى جونية بالاضافة إلى الشويفات، عند أطراف الضاحية الجنوبية، في منطقة تعرف بـ"حي الأمراء"، حيث ظهر الحجم الحقيقي للمخالفات، غرف نوم فوق السكة، متاجر مشيدة على الملك العام من قبل لبنانيين وغير اللبنانيين، شبكات إيجار غير قانونية، وعشرات الأشخاص يستفيدون من مورد لا حق لهم فيه. للمرة الأولى منذ خمسين عاماً، تتحرك الدولة بلا تردّد، وتكشف الانتهاكات على حقيقتها من دون حسابات سياسية أو أمنية.
هذه التحولات لم تكن لتحدث لولا القرار الواضح من النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامي صادر، الذي رفع السقف القانوني إلى مستوى غير مسبوق. تعليماته جاءت حاسمة، لا تهاون بعد اليوم مع الجرائم التي تطال حقوق الدولة أو المواطنين، أكانت أمنية أو اجتماعية أو مالية، وللمرة الأولى، ترفع الغطاءات، ويعامل ملف سكك الحديد كقضية دولة لا كملف تفاوضي خاضع للمساومات.
حملة استعادة السكك ليست تحركاً معزولاً، بل امتداداً لنهج جديد ظهر في ملفات أخرى مثل مصادر المياه في بحمدون وعين الرمانة، وعمليات ضبط الفوضى داخل مرافق عامة وجامعات ومؤسسات رسمية. ما يجري ليس تشدداً قضائياً عابراً، بل محاولة حقيقية لإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وإعادة ترميم هيبة القانون بعد سنوات من الانهيار المؤسساتي.
اليوم، تعود الجرافات إلى الساحات التي غادرتها منذ زمن. تزال الباطونات، تفتح السكة المدفونة، ويظهر الحديد الذي بقي نصف قرن تحت الركام. المشهد رمزي بقدر ما هو عملي، الدولة تعود إلى أملاكها، والقطار الذي تأخر خمسين عاماً بدأ أخيراً يتحرك. قد لا يكون الطريق سهلاً، لكن المؤكد أن المسار تغيّر بقيادة القاضي صادر، وأن إيقاف هذا القطار لم يعد مهمة ممكنة كما كان في الماضي.