التزمنا خلال الساعات الماضية، ومنذ فجر الجمعة، الصمت والمراقبة الدقيقة للتطورات الدراماتيكية في المنطقة، تلك التي كنا من أوائل من توقعوها منذ فترة طويلة وكتبنا كثيرًا عنها. وقد خرجنا بالاستنتاج التالي:
لقد وصلنا إلى الفصل الأخير من تحقق النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط. فبعد ضرب وإضعاف أذرع إيران في المنطقة، حان وقت الانقضاض على الرأس؛ ذاك الرأس الذي بدا في الساعات القليلة الماضية أوهن من الأذرع، والدليل على ذلك الخرق الاستخباري الإسرائيلي الضخم، الذي أظهر بوضوح أمرين:
أولاً: وجود مقاومة إيرانية داخلية تساعد “الموساد” في اختراق الأراضي الإيرانية، بدليل ما أفادت به وسائل الإعلام من أن السلطات الإيرانية ألقت القبض على عشرات الإيرانيين المتعاونين مع إسرائيل.
ثانيًا: ضعف السلطات الإيرانية في ضبط حدود الجمهورية الإسلامية المترامية، وعجزها عن الإمساك بأمنها الداخلي.
فهذا التوغل الإسرائيلي داخل الأراضي الإيرانية ساهم بشكل مباشر في تمكين إسرائيل، خلال دقائق، من القضاء على قادة الصف الأول في الحرس الثوري الإيراني وأركانه، وصولًا إلى اغتيال مستشار المرشد، علي شمخاني، والعلماء النوويين الإيرانيين، وضرب منشآت الحرس الثوري ومراكز التحكم والقيادة، والمخازن، والمواقع النووية، والمطارات… في عملية خاطفة ذكّرتنا بنكسة 1967، عندما قضت قوات الاحتلال الإسرائيلي في ساعات معدودة على سلاح الجو المصري والعربي.
ومع ذلك، ورغم التوقعات السابقة، فإن ما حصل خلال يومين حتى الآن كان مذهلًا!
أهذه هي الجمهورية الإسلامية في إيران؟
أهذه هي الجمهورية التي لطالما سمعنا عن تفوقها الاستراتيجي على إسرائيل؟
أهذه هي الثورة التي أرادت تصدير ذاتها إلى دول المنطقة والعالم؟
أهذه هي القوة الإيرانية؟
من الواضح والجلي أن ما حصل أسقط نهائيًا، ليس فقط هيبة الجمهورية الإسلامية ونظام الملالي، بل وأسقط أيضًا كل مصداقية ما كان يُسمى بـ”محور المقاومة والممانعة” في المنطقة. فقد أقرت إسرائيل بأن الوقت الذي احتاجته لإسقاط قيادات حزب الله في لبنان كان أطول من الوقت الذي احتاجته لإسقاط قيادات الصف الأول في طهران!
وليست هذه المرة الأولى التي تخطئ فيها القيادة الإيرانية حساباتها:
من الخطأ في التقدير بشأن حرب غزة و”طوفان الأقصى”،
إلى التقليل من شأن القوة الاستخباراتية الإسرائيلية في اغتيال قاسم سليماني، وإسماعيل هنية، وحسن نصرالله،
إلى سوء تقدير دور بشار الأسد وفاعليته،
إلى الخطأ في تقدير الموقف الأميركي من المفاوضات النووية، واعتقاد طهران بإمكانية اللعب على عامل الوقت كما فعلت سابقًا في جولات تفاوضية عديدة،
وأخيرًا الخطأ الكبير بزج حزب الله – “درة التاج” – في حرب استنزاف ضد إسرائيل المتفوقة تكنولوجيًا وعسكريًا واستخباراتيًا، ما أدى إلى خسارة الحزب جزءًا كبيرًا من قوته وفاعليته.
جميعها أخطاء استراتيجية دفعت طهران ثمنها، إلى أن وصل “الموس إلى الذقن” حاليًا.
هذه الأخطاء وغيرها ضاعفت من حراجة الوضع الإيراني. فما تجنبه الرئيس الديمقراطي جو بايدن أقدم عليه الجمهوري دونالد ترامب: إنهاء تفويض إيران بضرب أمن واستقرار المنطقة.
والأداة؟
اتفاق نووي جديد وصل إلى عنق الزجاجة، مع مقترح تخصيب اليورانيوم خارج إيران، بينما طهران رفضت وأصرت على أن يتم التخصيب داخل أراضيها ولو تحت رقابة دولية.
هذا الاتفاق كفيل بإنهاء مشروع تصدير الثورة، وإنهاء الأذرع، وإنهاء البرنامج الباليستي.
وما رفضته إيران في المفاوضات، باتت تقبل به بقوة السلاح. فمهما كانت نتائج هذه الحرب، فإن نتيجتها الحتمية ستكون طاولة مفاوضات، على الأرجح، لن تكون في صالح النظام الإيراني، الذي سيخسر كثيرًا من مقومات القوة والتأثير.
نحن نعيش المراحل الأخيرة من إعادة تشكيل النظام الإقليمي الجديد، وهذه الحرب قد تكون الفصل الختامي، وهي مرشحة لمزيد من التصعيد والخطورة، حيث كل الاحتمالات واردة، بما في ذلك الانتقال إلى الاغتيالات السياسية والقيادية العليا، واستكمال تدمير البنية العسكرية والباليستية الإيرانية، وصولًا إلى أقصى درجات إضعاف البرنامج النووي، الذي تضرر كثيرًا ولم يعد بنفس القوة والفعالية التي كان عليها سابقًا، في ظل التفوق الإسرائيلي الاستخباري والعسكري الواضح.
إسرائيل قد تحتاج إلى دعم أميركي تكنولوجي لاستكمال تدمير البرنامج النووي بالكامل، إذ لا قدرة لها على ذلك بمفردها، رغم ما ألحقته به من أضرار فادحة حتى الآن.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي كان يتجنب المواجهة العسكرية مع إيران خلال الجولات الخمس السابقة من المفاوضات، خرج عن تحفظه حين أعطى الإيرانيين مهلة 60 يومًا، دون تلقي أي إجابة على المقترحات. وفي اليوم 61، جاء الهجوم الإسرائيلي المباغت والمخادع لإيران، التي ظنّت أن لعبها على عامل الوقت سيمنع الأميركيين من السماح للإسرائيليين بالتحرك عسكريًا.
لكن المفاجأة وقعت، وهي مرشحة للتوسع واكتساب المزيد من الخطورة والضغوط على طهران ونظام الملالي، الذي أصبح أمام خيارين لا ثالث لهما:
الاستسلام والقبول بالشروط التفاوضية الأميركية لحفظ رأسه،
أو الاستسلام عسكريًا بعد القضاء على معظم عناصر قوته، لا سيما سلاحه الصاروخي الباليستي، الذي تستخدمه حاليًا بكثافة عبر قصف تل أبيب، وتهديدها بقصف آلاف الصواريخ لاحقًا.
لكن الواقع يُظهر أن إيران لا تملك سلاح جو حديثًا، ولا أسطولًا بحريًا متطورًا، ولا أذرعًا فاعلة تستطيع قلب التوازنات، ولم يعد لديها إلا الصواريخ، التي ستُستنفد خلال أيام إذا طال أمد الحرب…
إنها نهاية شبيهة بنهاية داريوس الثالث على يد الإسكندر الأكبر؛ معركة غير متكافئة ستُنهي عرش “الإمبراطورية الفارسية”، ومعها تُسدل الستارة على وهم “السرديات المقاومة والممانعة”، وأكذوبة “دول المحور” و”وحدة الساحات”، والجمهورية الإسلامية في إيران الكاسرة للتفوق الإسرائيلي!
لقد بدأت الفضيحة فصولها على أرض الواقع في السابع من أكتوبر 2023، وقد تنتهي بإسقاط الرأس في عام 2025، مساهمة بذلك في تسريع تحقق الشرق الأوسط الجديد، الذي نمر حاليًا في مراحله الأخيرة.
فلنبقِ أعيننا على الداخل الإيراني… وعلى أمن وسلامة القيادة الإيرانية.