تخطئ بعض الأبواق المدافعة "غرائزياً" عن سلاح حزب الله عندما تُصوّر المطلب بتسليم الحزب سلاحه على أنه تآمر على الطائفة الشيعية وعلى حزب الله بالذات.
فالمطلب اللبناني المزمن بتسليم الحزب سلاحه للدولة اللبنانية ليس مطلباً تآمرياً لا على الشيعة ولا على الحزب، بل هو مطلب يصب في صالح الطائفة والحزب، باعتبار أن الطائفة الشيعية الكريمة من الطوائف المؤسسة للكيان والدولة.
منذ نظام ١٨٦٤ كان للشيعة دوراً تأسيسياً مع تخصيص مقعد في مجلس إدارة متصرفية جبل لبنان، وفي وظائف جهاز المتصرفية، أسوة بالموارنة والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والدروز والسنة.
وفي عهد الانتداب أقرت فرنسا بالطوائف التاريخية بكياناتها التقليدية، وقد أنشأ الانتداب في القرار رقم ٣٥٠٣ الصادر عن حاكم لبنان ليون كيلا بتاريخ ٢٧ كانون الثاني ١٩٢٦ المحاكم الشيعية الجعفرية، وقد أقر القانون رقم ٧٢ للعام ١٩٦٧ تنظيم كيان الطائفة الشيعية الكريمة في مادته الأولى التي نصت على: "الطائفة الإسلامية الشيعية مستقلة في شؤونها الدينية وأوقافها ومؤسساتها… ولفقه المذهب الجعفري في نطاق الفتاوى الصادرة عن مقام المرجع العام للطائفة في العالم".
والمعلوم منذ ذلك الحين أن المقصود بالمرجع العام للطائفة كان الإمام السيد محسن الحكيم المقيم في النجف في العراق.
ونشأ على الأثر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كسلطة تحكم شؤون الطائفة، وتتمركز فيه جميع الصلاحيات كتنظيم أوقاف الطائفة وتنسيق الأنشطة بين مختلف المؤسسات الاجتماعية والثقافية والجمعيات الخيرية وما يماثلها، وإنشاء جامعة دينية وجامعة للتعليم العالي.
وبالتالي قام كيان الطائفة الشيعية الكريمة على مبادئ جماعية السلطة والعضوية الحكمية في السلطة الجماعية وسيادة الطائفة لكيانها.
وقد أُعطيت الطائفة الشيعية حق تعديل ما تشاء من أحكام المرسوم الاشتراعي رقم ١٨، بحيث باتت الطائفة، أسوة بسائر الطوائف اللبنانية المؤسسة للكيان الوطني، من الوحدات السياسية الطائفية التي يتألف منها الشعب اللبناني.
وقد وُضع هذا النظام بتوقيع رئيس المجلس الأعلى الإسلامي الشيعي في ٢١ آب سنة ١٩٦٩، بعد اقترانه بمصادقة مجلس الوزراء بموجب القرار رقم ١٥ في شهر أيلول ١٩٦٩.
هذه السردية التاريخية تؤكد ثابتة سياسية تاريخية بأن الطائفة الشيعية الكريمة من الطوائف المؤسسة للكيان اللبناني، ولا يمكن النظر إليها بغير ذلك.
فهل من داعٍ للتذكير بأن جبل عامل (الجنوب حالياً) شكّل مركزاً علمياً شيعياً بارزاً في العالم الإسلامي، ومنهم علماء كمثل الشهيد الأول، والشهيد الثاني، والشيخ الحر العاملي، الذين ساهموا في تطوير الفقه الشيعي الإمامي ونشر العلوم الدينية خارج لبنان، خصوصًا في العراق وإيران، وقد أدى هذا الإرث العلمي إلى منح الطائفة هوية راسخة ساعدتها لاحقاً على المطالبة بمكانها في الكيان اللبناني.
ونذكر بموقف جبل عامل من قيام دولة لبنان الكبير (١٩٢٠)، حيث، ورغم بعض التحفظات، انبرت شخصيات رأت في لبنان إطاراً ممكناً لحماية التنوع والمشاركة السياسية، وانتهى الأمر باندماج الجنوب تدريجياً في الدولة الجديدة من دون أي سعي إلى الانفصال.
وهل من داعٍ للتذكير بمشاركة أبناء جبل عامل في بناء الدولة اللبنانية من خلال المؤسسات التشريعية والإدارة والجيش، وإعادة تعريف موقع الشيعة في لبنان كـشركاء مؤسسين لا أطراف هامشية، بحيث بات يُنظر إلى شيعة جبل عامل كجزء أساسي من النسيج المؤسِّس للبنان الحديث.
فأبناء جبل عامل لم يكونوا مجرد تابعين في مشروع لبنان، بل ساهموا ثقافياً واجتماعياً وسياسياً في تكوينه، فأصبحوا ركناً بنيوياً من أركان الدولة اللبنانية.
فبعد كل هذا التاريخ المجيد، أيعقل أن ينبري من يعتبر نفسه (حزب الله) ممثلًا للطائفة (وهو في الحقيقة ليس كذلك) ليحصر كل تاريخ الطائفة في "بضعة خردة" من سلاح لم يحمِه، ولم يحمِ الطائفة، ولم يحمِ لبنان؟
من هنا تأتي المطالبة، من خلال تسليم السلاح وحصريته بيد الدولة اللبنانية، في سياقه الطبيعي لطائفة كان لها دور تأسيسي تاريخي في قيام دولة لبنان وترسيخ أركانها. فهل بات السلاح عنوان وجود وبقاء طائفة حضارية لبنانية تأسيسية للثوابت الكيانية اللبنانية، لا تحتاج لأحد ولا لمن يرسخ وجودها في صلب المعادلة اللبنانية الدولتية، لأنها وُجدت منذ تأسيس دولة لبنان وستبقى ركناً أساسياً حضارياً وثقافياً وسياسياً مؤثراً وفاعلًا، تنقذ بعض أبنائها "الضالين" لتعيدهم، بحكم الطبيعة والتاريخ والإرث الحضاري اللبناني، إلى صلب مشروع الدولة اللبنانية والشرعية اللبنانية.
وما مطلب تسليم السلاح إلا الخطوة الأساسية ليعترف بعض المضللين بكيانية لبنان وحتمية الدور التأسيسي للطائفة.