تعيش الساحة السياسية اللبنانية حالة من التناقض والارتباك بين من يهاب حسم ملف السلاح غير الشرعي، وبين من يتردد في اتخاذ خطوات حاسمة بهذا الاتجاه.
المشهد السياسي اللبناني لا ينقسم فقط بين ما يُسمّى بمحور "الممانعة والمقاولة"، ومحور "السياديين اللبنانيين"، بل أيضًا بين محور يخشى المواجهة ومحور يجرؤ على المطالبة بنزع سلاح "حزب الله".
من الجيد أن تعمل الدولة على معالجة ملف السلاح الفلسطيني داخل المخيمات، فهذا مطلب أساسي في سياق حصر السلاح على الأراضي اللبنانية بيد الشرعية وحدها. ولكن من غير المقبول أن يتحوّل التركيز كليًا نحو هذا الملف، وأن يُمنح حزب الله فترة "استراحة" سياسية تحت شعار الحوار أو إعادة بناء الثقة. المطلوب هو السير بالتوازي في معالجة ملفَي السلاح: سلاح حزب الله وسلاح المخيمات الفلسطينية، لأن كليهما يشكل خرقًا واضحًا للسيادة ويقوّض مشروع الدولة القوية والمستقلة.
ثمة أمر بالغ الأهمية لا يبدو أن جزءًا من اللبنانيين – لا سيما جمهور الحزب – يدركه، وهو أن لبنان لم يعد ساحة لتصفية الصراعات الإقليمية أو قاعدةً للرسائل السياسية الإيرانية. فإيران نفسها تفاوض الولايات المتحدة اليوم، ليس فقط على ملفها النووي، بل على مستقبل نظامها وضمانات استمرار حكمها وانتقال السلطة فيها.
لبنان بدأ تدريجيًا بالخروج من فلك النفوذ الإيراني، كما حصل في دول أخرى مثل العراق وسوريا (جزئيًا)، وقطاع غزة، واليمن، في سياق إقليمي ودولي يتجه نحو تقليص نفوذ الأذرع الإيرانية، وفي مقدمتها "حزب الله".
ومهما حاول الحزب التنصّل من تبعيته لإيران، فإن ما قاله أمينه العام السيد حسن نصرالله بصراحة، حين أقرّ بأن تمويل الحزب وسلاحه ورواتبه وغذاء عناصره مصدرها الجمهورية الإسلامية في إيران، يُعدّ أوضح دليل على العلاقة العضوية بين الطرفين. وبالتالي، فإن إيران لا تدعم الحزب من منطلق إنساني أو تضامن مبدئي، بل من منطلق خدمة مصالحها الإقليمية.
وإذ نشهد تراجع الدور الإيراني في لبنان، تبرز ظاهرتان خطيرتان:
الأولى، "متلازمة ستوكهولم" التي تظهر عند بعض اللبنانيين الذين تعايشوا مع واقع الخوف من الحزب إلى حدّ التماهي معه. بعض هؤلاء كانوا من دعاة السيادة، وبعضهم ادّعى الحياد لتجنّب المواجهة، فيما اختار آخرون التحالف مع الحزب حفاظًا على مكاسب شخصية أو سياسية.
أما الظاهرة الثانية، فهي استثمار الحزب المستمر في الخوف الذي فرضه على اللبنانيين على مدى سنوات، لمواصلة سياسة التسويف والمراوغة وافتعال الصدامات السياسية "الوجدانية" التي تهدف فقط إلى كسب الوقت. لكن الحزب يعرف – ويجب أن يعي – أن زمن السيطرة المطلقة قد انتهى، وأن صورته اهتزّت بعد الكوارث التي تسبّب بها للبنان، من الجنوب إلى الضاحية، مرورًا بالبقاع، والتي أدّت إلى تهجير الآلاف وتدمير الاقتصاد وإفلاس بيئته الحاضنة.
لم يعد ما يقوّي الحزب في الداخل سوى قلة من الأصوات التي لا تزال تعتبره "الوصيّ" و"المخلّص"، رغم أنه كان أحد الأسباب الأساسية في ما وصل إليه لبنان. هؤلاء باتوا بمثابة جهاز إنعاش اصطناعي لحزب فقدَ مشروعيته السياسية والشعبية، وسلاحه دخل مرحلة الموت السريري. والمسألة لم تعد "إن كان سينتهي"، بل "متى سينتهي".
