كتب جورج أبو صعب:
أبرزُ ملفٍ ستتصدّى له إدارة الرئيس دونالد ترامب الجديدة النووي الإيراني، وقد سبق لترامب أن ألغى اتفاق ٢٠١٥ لغير صالح اتفاقٍ جديد كانت تعمل عليه إدارته قبيل انتهاء الولاية الاولى، فالرئيس ترامب يريد اتفاقاً نووياً مع إيران لكن بشروطه هو لا بشروط إيران كما كانت عليه الحال في اتفاق ٢٠١٥ الملغى.
موقف الوكالة الذرية للطاقة النووية الأخير المرحِب بخطوات إيران كان موقفاً تقنياً أكثر منه سياسي لأن الحقيقة السياسية تقول إن طهران لا تزال محاصرة بموقفٍ غربي يلوّحُ بتشديد العقوبات عليها، وفي ذلك المنحى مبرّرات جيو سياسية واضحة سنذكرها فيما يلي:
خطوة طهران بوقف توسيع مخزونها والذي اعتبرته الوكالة الذرية للطاقة النووية ممثّلَة بشخص مديرها رافاييل غروسي خطوة جيدة لم تمحِ الشكوك الغربية حول مدى التزام طهران الكامل بالاتفاقات سيما وأن السياسة الخارجية الإيرانية لطالما اتسمت بالازدواجية في المواقف وبمعرفة التوقيت الملائم للانحناء أمام الضغوط للعودة من ثمَّ الى المعاندة والمكابرة .
طهران التي وافقت على وقف توسيع المخزون النووي إنما أرادت إرسال إشارة تعاونٍ مع إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي يبقى هاجس الإيرانيين الأول خصوصاً واأنهم اختبروا في ولايته الأولى مدى حزمه تجاههم.
ومن هنا، فإن إبداء طهران استعدادها للحدّ من تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة هو رسالةٌ واضحة للطرف الأميركي بالاستعداد للتفاوض مجدّداً للتوصّل الى اتفاقية جديدة أهم ما فيها لنظام الملالي الإفراج عن الأرصدة المالية المجمّدة والتي باتت طهران بأمس الحاجة اليها لتحسين الوضع الاقتصادي الداخلي المتهالك والمُنذِر بانفجار غضبٍ شعبي كبير سيطيحُ بالنظام، وهذا ما لا تريده واشنطن حالياً في ظل إدارة الديمقراطيين، والذي قد لا تمانع إدارة ترامب من حصوله إن وصلت الأمور الى حدّ إسقاط النظام انطلاقاً من المعادلة الواضحة بأن ضرب النووي يعني إسقاط النظام الإيراني من الداخل.
هذه المعادلة هي التي لا تزال تقف حائلاً دون السماح لإسرائيل بضرب المفاعلات النووية الإيرانية، ومع ذلك يبقى أمام الإيرانيين تحدّي إثبات صدقيتهم إذ إن طهران بحاجة إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لضمان عدم التوسّع مستقبلاً في عمليات التخصيب، وهذا ما يُفترض من الدول الأعضاء في الوكالة الذرية إبداء المزيد من الحزم والضغط على الإيرانيين مع مواصلة المفتشين الدوليين مراقبة الأنشطة الإيرانية لضمان التزامها بهذا التوقّف وعدم جعله مناورة تُضافُ الى سلسلة مناورات سابقة كانت فيها طهران تُبدي إيجابيات ثم لا تلبث أن تتراجع عنها.
أما على صعيد المواقف الدولية، فيُلاحظ أن فرنسا وألمانيا وبريطانيا وحدهم يدعون إلى استئناف المفاوضات مع الإيرانيين، فيما الولايات المتحدة وحلفاؤها اتجهوا الى إعداد نصّ قرارٍ في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية يُدينُ إيران لعدم تعاونها الكامل مع الوكالة.
هذا القرار إذا تم اعتماده فإنه بالتأكيد سيُعيدنا الى تفعيل آلية ما يسمى “بالسناب باك” التي تعيد فرض العقوبات الدولية على إيران، وبالتالي الذهاب الى مزيد من الضغط على الوضع الاقتصادي الداخلي لإيران وهي لا تزال تعاني من العقوبات الغربية.
من جهتها، اعتبرت الخارجية الإيرانية أن هذا القرار يتناقضُ مع الأجواء الإيجابية الحاصلة بين طهران والوكالة، وقد أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن طهران قد تتخذُ خطوات تصعيدية إذا تم طرح القرار في مجلس محافظي الوكالة.
إيران اذاً أرسلت إشارة مرونة في موضوع ملفها النووي من خلال إظهار إيجابيتها حيال الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فهل تكون هذه المرونة مناورةً استباقية لتليين موقف إدارة ترامب المقبلة؟
الأكيد أن من مصلحة الإيرانيين إيجاد حلول ديبلوماسية سلمية لبرنامجهم النووي لأن الوهن الأمني و العسكري الذي وصلت اليه إيران بعد الضربة الإسرائيلية الأخيرة لها يجعلها عُرضة في أي وقت أخطر على منشآتها النووية بالتزامن مع تصاعد الضغوط الأميركية والأوروبية عليها، فالعودة لسياسة “الضغوط القصوى” التي كان قد تبنّاها الرئيس دونالد ترامب في ولايته الأولى تبقى الخوف الأكبر لدى نظام طهران، ومن هنا تأتي المحاولات الإيرانية لاستباق أي استراتيجية صدامية مع إدارة ترامب المقبلة.
من جهة الأوروبيين، أكثر ما يزيد من حنقهم تجاه طهران هي العلاقات التحالفية بين إيران وروسيا العدو الأول الأوروبيين حالياً بسبب حرب أوكرانيا وذهاب نظام الملالي الى حدّ تزويد الرئيس فلاديمير بوتين بصواريخ ومُسيّرات تفتكٌ بالأوكرانيين رغم نفي إيران لذلك التحالف، إلا أن هذا الموضوع لا يزال يلقي بثقله على الموقف الأوروبي من إيران، الأمر الذي يزيد من التوتر والتعقيدات في مقاربة الملف النووي الإيراني.
طهران ترفضُ الضغوط الأوروبية، وقد رفضت مشروع القرار الأوروبي في محاولة منها للقفز فوق الاعتبارات الأوروبية المشروعة لا سيما وأن روسيا أكدت في محطات عدة تعاونها العسكري مع القيادة الإيرانية، وقد هدّدت طهران الأوروبيين على لسان الوزير عباس عراقجي باتخاذها خطوات تصعيدية إذا تمَّ طرح القرار في مجلس محافظي الوكالة.
انطلاقاً من مجمل هذه المعطيات، يمكن القول بإن مسألة استئناف المفاوضات بين إيران والغرب لا تزال دونها تعقيدات تعيقها خصوصاً في ظل التوترات الجيو سياسية الحالية في المنطقة والحرب في غزّة ولبنان، وما بات معروفاً من وجود توجّه أميركي- غربي- عربي لإنهاء ظاهرة الميليشيات الإيرانية في المنطقة، في وقت لا تنفي إيران شراكتها الاستراتيجية مع الروس وهي لم تنجح في إقناع الغرب بعدم تزويدها روسيا بالمُسيّرات والصواريخ في ظل استمرار تعرض إيران لضغوط كبيرة من الدول الغربية بسبب هذا التعاون الباليستي بين البلدين ضد أوكرانيا.
إيران اذاً محاصرة جيو سياسياً ونووياً وديبلوماسياً ناهيك عن انغماسها في المواجهة العسكرية مع إسرائيل سواء مباشرة أم بواسطة حزب الله في لبنان، وبالتالي أي خيار تتخذها سيكون مُكلِفاً لها مثل تخفيض التعاون مع الوكالة الذرية أو الانسحاب من التزامات تعاقدية دولية، وهي أمام خيارات صعبة يضيق مجالها يوماً بعد يوم، وتلك الضغوط المتزايدة طريقها مزيد من العقوبات وقد ينسحب تصاعد الضغوط عليها على ملفات إقليمية أخرى واستحقاقات إقليمية أخرى اذا رأت القيادة الإيرانية إمكانيةً لذلك للمقايضة وإيجاد تسويات وإبرام صفقات لصالحها ولو على حساب وكلائها في المنطقة.