” اليوم التالي” بعد الانتخابات التشريعية …فرنسا اللامستقرّة تتأرجحُ فوق أطلال الجمهورية الخامسة!!  

WhatsApp-Image-2024-07-08-at-11.18.36-AM

لطالما كانت الديمقراطية  في فرنسا بألف خير  وهي حالياً وخلافاً لحملات التخويف والتشكيك والتهويل، في أبهى حُلَلها رغم ما حملته  من مفاجآت قاسية وفريدة من نوعها لم يعتد عليها المشهد السياسي الفرنسي منذ العام 2017 أي منذ اللحظة التي سطعَ فيها نجم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون من خلال نجاح حزبه في إنهاء الظاهرة الكلاسيكية للانقسامات السياسية التقليدية بين يمين ويسار، والتي ميّزت القسم الأكبر من عمر الجمهورية الخامسة، لكن بالنتيجة الديمقراطية هي الديمقراطية ولا يمكن تجزئة القبول بها، وإرادة الشعب هي الفيصل وها أن الشعب قد فصلَ وقال كلمته وعلينا إجراء قراءة معمّقة للتحوّلات التي أدّت الى وصول فرنسا لتلك المشهدية الفريدة بتاريخ جمهوريتها الخامسة.

إستنفار عام لليسار الفرنسي في وجه اليمين المتطرّف

 المعركةُ لم تنتهِ ليل أمس في فرنسا بل بدأت منذ لحظة تلاوة النتائج الأولية، ما يمكن تسميته بدورة ثالثة ستتجلّى  بكيفية تشكيل الحكومة العتيدة وحكمها ومَن يترأسها وما هو برنامجها السياسي والوطني، ما قد يحملُ  الكثير من التغييرات في معادلة القوى التي أفرزتها نتائج الانتخابات التشريعية،

فثُلثي الناخبين الفرنسيين شاركوا في الدورة الثانية نتيجة الاستنفار العام الذي قادته قوى اليسار مع حلفاء أو متحالفين معها لوقف تصاعد أقصى اليمين، وقد تشكّلت التنازلات من الترشيحات التي بلغ عددها 200، وجنّدت قوى المجتمع المدني في سبيل منع وصول أقصى اليمين أو ما يُصطلح على تسميته باليمين المتطرف.

تنازلات غير اعتيادية  و” بلوك” عربي مؤثر

 نتائج الانتخابات شكّلت نكسةً لحزب التجمّع الوطني ولمارين لوبان التي تتحضّر لخوض الانتخابات الرئاسية في العام 2027، ولكن إذا نظرنا الى الأرقام والى توزّعها على الدوائر الانتخابية نخرجُ باستنتاجين أساسيين:

-الأول: أن المواطنين الفرنسيين من أصول عربية ومغربية لعبوا دوراً كبيراً في التجنيد والاستنفار وشدّ الهمم لمنع وصول اليمين المتطرّف، وقد صوّتوا بأعداد ضخمة ضد اليمين المتطرّف في الدورة الثانية.

-الثاني: حصول أكثر من 200 تنازلٍ وتجييرٍ لترشيحات بعضها جاء خلافاً لطبيعة التحالفات السياسية (بين مرشحين من أحزاب لا تلتقي عادةً على الخط السياسي والأفكار الواحدة ) ما أضعفَ كثيراً نسبة الاقتراع للتجمّع الوطني، وخطفَ بالتالي منها إمكانية الاستحصال على مقاعد كاسحة.

أمام فرنسا مرحلة من اللاستقرار أقله لعامٍ

بالعودة الى النتائج النهائية للدورة الثانية، يشغلُ ائتلاف اليسار المكوّن من الحزب الاشتراكي وحزب فرنسا الأبية وحزب الخضر والحزب الشيوعي والاشتراكي الحديث ما بين  184 و186 مقعداً، فيما تراجعَ ائتلاف الرئيس إيمانويل ماكرون الحاكم الى المرتبة الثانية بعددٍ من المقاعد بين 160 و162 ما شكّلَ صفعةً وتراجعاً كبيرين ينهيان سيطرة “الماكرونية” الحاكمة منذ 7 سنوات، بينما تراجعَ حزب التجمّع الوطني من الدورة الأولى الى الدورة الثانية بشكل كبير وهو يشغل ما بين 141 و 143 مقعداً، أما اليمين الوسطي ومنه الحزب الجمهوري فقد حافظَ نوعاً ما على كتلته رغم الانتكاسات التي عاشها الحزب الجمهوري بعد التحاق رئيسه أريك سيوتي بلوائح حزب التجمّع الوطني بزعامة جوردان بارديلا فنال اليمين الوسطي الذي يتكوّن من ائتلاف الجمهوريين واليمين الوسطي ما بين 67 و69 مقعداً.

 هذه التشكيلة الجديدة للجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) أقل ما يُقال عنها أنها تُنبىء بمرحلة سياسية صعبة جداً من عدم الاستقرار السياسي، ففرنسا في ظل مثل هذه الجمعية الوطنية باحتساب علاقات القوة بين مكوّناتها الجديدة لن تكون قادرة بسهولةٍ على حكم فرنسا، ما يذكّرُ بمرحلة عدم الاستقرار السياسي التي عاشتها فرنسا في ظل الجمهورية الرابعة ما بين 1870 و1958 مع سلسلة التغييرات الحكومية والانقلابات الديمقراطية،

علماً أن هذه الجمعية الوطنية المنتخَبة لا يمكن للرئيس ماكرون حلّها مرة ثانية إلا بعد مرور عام على تشكيلها، ما يعني أن فرنسا مقبلةٌ على مرحلة عدم استقرار لعامٍ على الأقل إذا فشلت القوى الممثَّلة في الجمعية الوطنية في الائتلاف أو التفاهم على حدٍّ أدنى من البرامج والقوانين الأساسية التي ينتظرها الفرنسيون.

معطيات وموازين متشابكة ومعقّدة

من هنا وبعد أن أُسدلت الستارة على الانتخابات التشريعية المبكِرة، فإن المعطيات تشيرُ الى تشكّل موازين قوى متشابكة ومعقّدة وفق الاتي :

أولاً : فشل الهدف الذي دفع بالرئيس إيمانويل ماكرون الى حل الجمعية الوطنية السابقة والدعوة الى انتخابات تشريعية مبكِرة ألا وهو الوصول الى مزيدٍ من الوضوح في خيارات الفرنسيين الوطنية إثر تحقيق حزب التجمّع الوطني انتصاراً ساحقاً في الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، فإذا بنتائج تلك الانتخابات المبكِرة تزيدُ الوضع السياسي في فرنسا غموضاً وتعقيداً، ولم تأتِ بأية توضيحات كما أرادها .

ثانياً : حزب التجمّع الوطني هو الحزب الوحيد في الجمعية الوطنية الذي نال المقاعد  من دون ائتلافات كبرى على غرار ائتلاف قوى اليسار والائتلاف الحاكم،  وما التحاق رئيس حزب الجمهوريين بلوائحه سوى حركة متواضعة  لم تعطِ التجمّع أكثر من ما نسبته 10% من أصوات الناخبين، وبهذا المعنى يكون التجمّع الوطني القوة الأولى في موازين القوى داخل البرلمان، علماً أن عدد المقاعد التي نجحَ في الحصول عليها في هذه الانتخابات زاد بنسبة 40 % عن تلك التي كان يشغلها في ظل الجمعية الوطنية السابقة.

ثالثاً : صعوبة التفاهم وإيجاد قواعد مشتركة بين الكتل النيابية لحكم البلد والتشريع لا سيما بين “فرنسا الأبية” ونوابها الذين يملكون برنامجاً اجتماعياً واقتصادياً على طرف نقيض مثلاً من برنامج اليمين الوسطي وحتى الائتلاف الحاكم، الأمر الذي يبدو من المستحيلات ما لم تطرأ معجزات، وبالتالي فإن أجواء العمل والجلسات تحت قبة البرلمان الجديد ستكون صاخبةً وغير منتِجة حيث كل طرف يقفُ عند أفكاره وبرامجه ويشلُّ التشريع والتقدّم في البلاد .

رابعاً : الرئيس إيمانويل ماكرون أحد أكبر الخاسرين من خطوته بحل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات مبكِرة أمام خياراتٍ صعبةٍ ليس أقلها “المساكنة” مع حكومة يسار سيكون لها برامجها ورؤيتها المناقضة لسياساته وبرنامج حكمه للسنوات الثلاث المتبقية أو في أحسن الأحوال اللجوء الى تشكيل حكومة غير سياسية تتولّى إدارة البلد لفترة من أجل تمرير ما أمكن من قوانين وتشريعات بالحد الأدنى.

صباح اليوم التالي في فرنسا

فرنسا اليوم وفي صباح “اليوم التالي” أمام مرحلةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ يصحُّ معها القول إن ما قبل 7 تموز لن يكون في تاريخ الجمهورية الخامسة كما قبله .. والأنظار كلها الآن مشدودة الى الخطوة التالية، ولا سيما من جانب ساكن الاليزيه، وهي على مواعيد كبرى من قمّة الناتو يوم الثلاثاء المقبل في الولايات المتحدة الى الألعاب الأولمبية في القسم الثاني من الشهر الحالي وتحدياتها الأمنية الجسيمة … وصولاً الى الميزانية الواجب إعدادها وطرحها في الخريف المقبل …من دون أن ننسى التحديات الجيو سياسة المحيطة بأوروبا ومصير السياسات الخارجية …

 فرنسا أمام مرحلةٍ صعبةٍ … وغامضة ابتداء من الآن … ومروحة الخيارات واسعة تتراوح بين تشكيل حكومة تكنوقراط ضمن أطر مؤسسات الجمهورية الخامسة وبين استقالة الرئيس ماكرون وإعادة النظر بالجمهورية الخامسة برمّتها …

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: