كتب مارون مارون:
في لحظة كان يُفترض أن ترتقي فيها الدولة فوق الحسابات الضيّقة، وأن تُظهر أفضل ما لديها من احترام للموقع والرمزية والتمثيل، اختارت دوائر القصر الجمهوري أن تسقط في امتحان البديهيات. ففي الحفل الرسمي الذي أقيم على شرف قداسة الحبر الأعظم البابا لاوون الرابع عشر، المرجعية الروحية الكاثوليكية الأولى في العالم، غابت عن لائحة الدعوات شخصية تُعتبر، شاء البعض أم أبى، جزءًا ثابتًا من المعادلة المسيحية والوطنية في لبنان: رئيس حزب القوات اللبنانية ورئيس أكبر تكتل مسيحي ونيابي في البلاد، الدكتور سمير جعجع.
هذا التجاهل لم يكن تفصيلاً بروتوكوليًا. فحين تُستدعى الشخصيات السياسية والنيابية والوزارية كافة، ويُستثنى الوحيد الذي يمثّل الكتلة المسيحية الأكبر في البرلمان، يصبح السؤال أكثر من مشروع: ما الذي دفع رئاسة الجمهورية إلى هذا التصرّف؟ وما الرسالة التي أرادت إيصالها - عن قصد أو عن عجز - للبابا نفسه وللمسيحيين في لبنان؟
إن حضور سمير جعجع لا يُقاس بموقع دستوري ولا بصلاحية إدارية. هو حضور مستمدّ من تمثيل شعبي صريح وثابت، ومن دور سياسي ووطني لا يمكن تجاوزه، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بحدث ذي طابع مسيحي كنسي على هذا المستوى. تجاهله في لحظة كهذه لا يشكّل إساءة لشخصه فحسب، بل إساءة لفكرة الشراكة، ولمنطق الاحترام المتبادل، وللرمزية اللبنانية التي لطالما قامت على التوازن والاعتراف المتبادل بين مكوّناتها.
الأخطر، أنّ من يفترض بهم أن يحموا هيبة الدولة ووحدة المسيحيين أمام أعلى مرجعية كاثوليكية في العالم، اختاروا بدل ذلك أن يقدّموا صورة مشوّهة عن ذهنية الإقصاء والضغينة السياسية. وهنا لا يمكن تبرئة دوائر البروتوكول في القصر الجمهوري، التي تحوّلت إلى أدوات صغرى في حسابات أكبر منها، عاجزة عن الارتقاء إلى مستوى اللحظة وإلى ما تتطلبّه من مسؤولية واحترام للتمثيل المسيحي الفعلي.
لقد ظنّ البعض أنّ إسقاط اسم سمير جعجع من لائحة المدعوين سيُحدث شرخًا في صورته أو يُضعف حضوره. لكن الحقيقة أنّ ما حصل لم يُصِب جعجع بشيء، بل أصاب الرئاسة نفسها. والعبارة التي تختصر المشهد برمّته هي التالية:
سقطت الرئاسة يوم أسقطت دعوة سمير جعجع.
فالسقوط هنا ليس سياسيًا بل معنويًا. سقوط في معايير الدولة، في أبجديات التمثيل، في احترام الموقع المسيحي الأوسع حضورًا وتأثيرًا اليوم في الحياة السياسية اللبنانية. أما جعجع، فحضوره لا يُمحى بدعوة ولا بغيابها. حضوره راسخ في الناس وفي المؤسسات وفي الوجدان السياسي المسيحي، وهو أكبر من أن يُختصر بموقف بروتوكولي عابر.
في النهاية، قد تنسى الرئاسة ما فعلته، لكن المسيحيين الذين رأوا المفارقة الفاضحة لن ينسوا. والبابا الذي جاء ليُصلّي من أجل لبنان، لا يحتاج إلى بروتوكول مغشوش ليدرك أين يكمن الثقل وأين تكمن الحقيقة، حقيقة سلام النفوس، وسلام المنطق، وسلام الشعوب، وسلامة التمثيل... والسلام.