أما وقد اغتيل إسماعيل هنية ودُفنَ في دولة قطر بعد الصلاة عليه، نعود الى الوقائع السياسية لا بل الى البحث في الحقائق السياسية الخطيرة والدقيقة، بحيث لطالما تكوّنت لدى المراقب والمحلّل والإعلامي صورة كون الجمهورية الإسلامية في إيران هي راعية وكلائها الإقليميين وميليشياتها المستولية على دول عربية في المنطقة، وأن هذه الجمهورية هي التي، بصفتها الراعية، تحمي وكلاءها وتدعمهم وتمدّهم بما يلزم من أجل تصدير الثورة ومحاربة إسرائيل والنضال في سبيل فلسطين والقدس، فيما نظام طهران يفاوضُ على صفقات من تحت الطاولة ويطلقُ المواقف العنيفة فوق الطاولة.
خسارة إيران لكبار قادتها بين التواطؤ والتراخي
هذه الصورة النمطية للدور الإيراني سرعان ما تعرّضت ولا تزال للتساؤل في إطار الشك حول حقيقة قدرة إيران والنظام في طهران على حماية وكلائها لا بل حماية علمائها وقياديي وضباط قواتها المسلّحة في الحرس الثوري، وصولاً الى حماية حلفائها لا بل وكلائها وقياداتهم في عقر دارها.
الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي تهدّدُ إسرائيل بالمباشر بالردّ عليها انتقاماً وثأراً لقتل إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس على أراضيها هي نفسها التي عجزت عن حماية مواطنيها في قلب إيران، فقد خسرت في السنوات الأخيرة عدداً كبيراً من العلماء والعسكريين والسياسيين في العديد من عمليات الاغتيال نتيجة إما التواطؤ وإما التراخي والضعف في عمل أجهزة الأمن والاستخبارات والمنظومات العسكرية .
تواريخ الاغتيالات مع الاغتيالات على أرض إيران
طهران شهدت على مرّ السنوات الأخيرة سلسلةً من الاستهدافات والاغتيالات طالت حتى منشأتٍ نووية وعسكرية منذ العام 2000، واكثرية هذه العمليات نسبت المسؤولية عنها الى إسرائيل التي دأبت، في نهجٍ مدروسٍ، على التزام الصمت أو عدم التأكيد على مسؤوليتها عنها، فاغتيال إسماعيل هنية هو ثاني عملية اغتيال تستهدفُ مسؤولاً رفيعاً في جماعة إسلامية على صلة بالمرشد الإيراني، إذ قَبله اغتيل بتاريخ 7/8/2020 أبو محمد المصري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة الذي استضافته الجمهورية الإسلامية على أراضيها، ثم اغتيل العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، نائب وزير الدفاع لشؤون الأبحاث في 7/11/2020 في إيران .
وفي العام 2023، أُعدم مسؤول إيراني سابق في وزارة الدفاع يحملُ الجنسية البريطانية قالت السلطات الإيرانية إنه لعب دوراً كبيراً في اغتيال محسن فخري زاده.
وبتاريخ 22/5/2022 اغتيل في إيران العقيد حسن صياد حذاي القيادي في فيلق القدس أمام منزله، وبتاريخ 12/1/2010 كان قد اغتيل مسعود على محمدي أستاذ مادة فيزياء الجُسيمات في جامعة طهران أمام منزله في طهران .
وبتاريخ 29/11/2010 اغتيل محمد شهرياري مؤسس الجمعية النووية الإيرانية، وفي نفس اليوم جُرحَ النائب الإيراني الحالي فريدون عباس نتيجة محاولة اغتيال فاشلة.
وفي 23/7/2011 اغتيل العالِم الإيراني داريوش رضائي نجاد في طهران .
وبتاريخ 12/11/2011 حصل انفجار كبير في مستودع ذخيرة للحرس الثوري الإيراني وقُتلَ على اثره الجنرال حسن طهراني من كبار ضباط الحرس الثوري وقد اتُّهمت الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بتنفيذ هذه العملية .
و بتاريخ 11/1/2012، اغتيل العالِم مصطفى أحمد روش في موقع مفاعل ” نتانز” النووي بانفجار قنبلة في سيارته.
كل هذه الاغتيالات وعمليات التفجير التي سُجّلت في قلب الأراضي الإيرانية من دون الحديث عن عجز السلطات الإيرانية في العثور على جثتي رئيس جمهورية إيران ووزير خارجيتها إبراهيم رئيسي وحسن أمير عبد اللهيان إلا بعد مُضي يومٍ كاملٍ وبمساعدةٍ تركية، تطرحُ جميعها علامات استفهام حول حقيقة قدرات إيران في مواجهة، ليس إسرائيل فقط بل تحديات أمنها الداخلي، خصوصاً وأنها في حالة حرب ومواجهة إقليمية مفتوحة مع إسرائيل وحلفائها ما يفترض بها أن تكون على أهُبّة استعداداتها وجهوزيتها في كافة مجالات الأمن والاستخبارات وسواها .
كشف المستور مع اغتيال إسماعيل هنية
إغتيال إسماعيل هنية كشفَ المستور الإيراني : فإما أن مَن يتمُّ اغتيالهم يُستهدَفون نتيجة صفقات مع الخارج وتحديداً مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وإما أن دماءهم على ضمير القيادة الإيرانية لعجزها عن حماية رعاياها وضيوفها.
والأدهى في موضوع اغتيال إسماعيل هنية أنه برزَت في الساعات الأخيرة رواية تمَّ تناقلها مفادها أن هنية لم يغتاله صاروخ إسرائيلي بل عبوة أو قنبلة زُرعت في غرفة نومه وربما في سريره وتم تفجيرها عن بعد.
هذه الرواية بدأت بالاتساع حتى أن السلطات الإيرانية اخذت بها، ظناً منها أن تداعياتها قد تكون أخف على سمعتها ومسؤوليتها، بينما في الواقع فإن الرواية الأولى حول الصاروخ الإسرائيلي أرحم وأقل مسؤولية الى حدٍّ ما، إذ إن الحديث عن زرع قنبلة في غرفة ضيف مهما كانت صفته أو هويته، وهو رئيس حركة أو منظمة وكيلة لإيران في المنطقة، لا يمكن إلا أن تنطوي على تآمرٍ داخلي لتصفية الضيف بأدوات محلية ولو كان المخطِّط والمنفِّذ خارجياً.
أسئلةٌ تؤرق قادة إيران
انطلاقاً من مجمل هذه الملاحظات، تُطرحُ الأسئلة الفعلية التي تؤرِق القيادة الإيرانية منذ اغتيال هنية : مَن يحمي مَن؟! هل المرشد الأعلى يحمي الميليشيات وقياداتها أم أن إنشاء الميليشيات هو فقط لخدمة المرشد وحمايته؟!
مهما يكن من أمر الإجابة، فإننا لا نرى أن اغتيال شخصية بمستوى إسماعيل هنية يمكن أن يمرّ من دون تواطؤ استخباراتي إيراني إسرائيلي أو من خلال شراكةٍ فعلية بين الإيرانيين والإسرائيليين، أو في أسوأ الأحوال عبر ضعف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية التي إما أنها فشلت في ضبط القنبلة التي يُحكى عنها أو في تأمين منظومة حماية دفاع جوّي منعت الصاروخ أو الصواريخ الإسرائيلية المفترَضة من اختراق المجال الجوّي الإيراني تماماً كما عجزت ( أو تمَّ تعجيزها بالاتفاق ) عن حماية صواريخ إسرائيل رداً على الهجوم الانتقامي في شهر نيسان الماضي، وبالتزامن علينا عدم استبعاد فرضية أن تكون إيران قد قبضت أثماناً معيّنة تسمح لها بالظهور بمظهر العاجزة عن حماية ضيوفها gأو شخصياتٍ معنيّة حتى من أبناء شعبها…
يبقى أن الساعات والأيام القليلة المقبلة ستكون حافلة حتماً بالتطورات على خط التوتر العسكري بين إسرائيل وإيران وميليشياتها في المنطقة، في ظل ترقّب عملية الثأر الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية … شرط أن لا تكون إستعراضيةً ومتفقاً على حدودها… كما جرى في السابق …