من الزاوية الجيو سياسية، هناك أكثر من سؤال يُطرَحُ حول تموضع حركة حماس راهناً، إذ عندما كانت حماس منقسمة بين جناحٍ سياسي مَرنٍ نوعاً ما مع إسماعيل هنية بالمقارنة مع الجناح العسكري في غزّة الممسوك من يحيى السنوار، كانت هناك صعوبةٌ كبيرةٌ بالتوفيق والتنسيق بين حماس الداخل وحماس الخارج، وصعوبة كبيرة في القضاء على وجودها السياسي، أما مع اختيار السنوار رئيساً سياسياً وضمّ الجناح العسكري الى الجناح السياسي ولو موقتاً، فإن المعادلة باتت أسهل.
طرفان مفاوضان متطرّفان
المفاوضُ هو السنوار والقائد العسكري هو السنوار، فإذا اغتيل السنوار انهارت حماس، وإذا أخلى السنوار غزّة تكون حماس قد أخلته، واذا نجح السنوار نجحت حماس ذات التمثيل الواحد والرأي المقرِّر الواحد.
الطرفان المتفاوضان باتا “طرفَين متطرّفَين : حكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة وقيادة حماس المتطرّفة مع السنوار، أي صراع التطرّف من الجهتين كما سبق أن وصفنا في إحدى مقالاتنا السابقة حول الحرب في غزّة في بعدها الاستراتيجي.
ونتيجة هذين التطرّفَين هي وقف، إن لم يكن دفن المفاوضات حول غزّة والرهائن ووقف إطلاق النار الى أجل غير مُسمّى، وبالتالي استكمال الحرب حتى غَلبَة طرفٍ على آخر، ما سيستدعي تعديلات في الخطط العسكرية والسياسية الإسرائيلية حيال عددٍ من الالتزامات المحيطة بغزّة من أجل التمكّن من تحقيق انتصار عسكري ما بعد الانتصار السياسي ذي الأبعاد الداخلية في إسرائيل، والذي تحقّق لنتنياهو وحكومته باغتيال إسماعيل هنية، وبالتالي هل يكون اختيار السنوار بداية خارطة طريق توصل الى انتقال حماس من الوضع العسكري الى الوضع السياسي بعدما بات هذا الأخير زعيماً سياسياً له ما له من مكانةٍ وإمكانيات خارجية لحمايته، مقابل تحوّل حماس الى حزبٍ سياسي يُمهّد لدخولها الى منظمة التحرير الفلسطينية ولاحقاً السلطة الفلسطينية؟
حماس من هنية المَرِن الى السنوار المتشدّد
إنه السؤالُ الذي لا يوجد جواب له حالياً لأنه لا يزال من المبكِر البتأكيد أو النفي،
لكن يبقى أن احتمال قتل السنوار من قبل إسرائيل واردٌ كشرطٍ بات أساسياً لإعلان انتصارٍ ما لنتنياهو وحكومته، وليذهب على أساسه الى إعلان انتهاء الحرب في القطاع.
التحوّلُ الذي حصل على رأس قيادة حماس هو تحوّلٌ استراتيجي مهمٌ جداً لم تكن حكومة نتنياهو ونتنياهو نفسه يتوقّعانه، لاسيما وأن يحيى السنوار لم يكن مُدرجاً على لائحة المرشّحين الرسميين لخلافة إسماعيل هنية الذي لم يُغتل من قبل إسرائيل في قلب إيران سوى لأنه كان مُحاوراً مرناً، وكان قاب قوسين أو أدنى من القبول بتسويةٍ، لا بل باتفاقٍ مع منظمة التحرير الفلسطينية بشأن تولّي ملف غزّة والتنسيق معه لإيجاد صيغة اتفاق على وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن والانتقال الى مرحلة وقف الحرب.
السنوار وتبدّل الأساليب والأهداف
اليوم ومع رئاسة السنوار، تبدّلت الأساليب ومعها الأهداف لا سيما وأن إسرائيل لا ترى في السنوار إلا هدفاً ينبغي إسقاطه والقضاء عليه وعلى مجموعة المقاتلين الذين يأتمرون به،
علماً أن السنوار اختير ولم يُنتخَب كما تقتضي الأنظمة الداخلية لحماس، ما يعكسُ أيضاً آلية عكست اختلافات داخل حماس إن لم تكن خلافات خاصة عندما نتذكّر كيف أن أنقرة عينت خالد مشعل خليفة لإسماعيل هنية غداة الاغتيال، ثم ما لبث هذا التعيين أن تحوّل الى محور خلافات، بحيث تدخّلت إيران وفرضت يحيى السنوار لاستكمال الحرب التي تريدها في غزّة، ولأن خالد مشعل من نهج هنية نفسه المفاوض والمهادِن، فهل ينقلُ مشعل الردّ والثأر من إيران الى حلفائها.
يبقى أن روسيا دخلت بقوةّ على خط ثني طهران عن الدخول في مغامرة عسكرية غير محسوبة النتائج، فموسكو ومنذ تحالفها مع بشار الأسد في سوريا ودخولها على خط الحرب الأهلية، تعتمدُ منهج الحفاظ على الحلفاء وعدم التفريط بهم، فكما يهمّها بشار الأسد في سوريا، يهمّها أيضاً نظام الملالي في إيران، وهي تسعى لعدم تعريض هذا النظام للخطر في حال انجرّت إيران الى مواجهة مباشرة مع واشنطن وتل أبيب، إذ عندها يكون الثمن النظام الأيراني نفسه.
من هنا، يمكن فهم تراجع اللهجة الإيرانية من أقصى التهديد بالثأر والويل والثبوار وعظائم الأمور الى اعتماد إسلوبٍ ديبلوماسي خلال اليومين الماضيين يحفظُ لإيران حقَّ الردّ، وبالتالي يمكنُ فهم موقف الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله الأخير ومختصره “مع أو من دون المحور، فإننا سنردُّ بما يعني إمكانية تراجع إيران عن التورّط المباشر وإعادة تسليم مشعل الانتقام والثأر لوكلائها.
ثمة تقاطعٌ لكلٍ من مصلحة روسيا ومصلحة الولايات المتحدة بعدم إشعال حرب إقليمية موسّعة وإن اختلفت الأهداف: روسيا ليست في وارد الانخراط حالياً في صراعٍ موسّعٍ في المنطقة لأنها لاتستطيع إدارة جبهات عديدة أو الانخراط في حروب عدة في آن، ولم تنتهِ من حرب أوكرانيا بعد، كما لأنها لا تريد الانجرار وراء إيران في “فخ نتنياهو النووي”، وكان أنها لا تريد المساهمة في حرق أوراقها في المنطقة، وهي تنتظرٌ وصول ترامب الى البيت الأبيض لتحسين أوراقها وتطويرها، فيما إدارة الرئيس بايدن ليست في وارد توسّعة حرب إقليمية، وهي في خضمِّ معركة انتخابية رئاسية صعبة ودقيقة لا تريد أن تأتي الحروب لتُضعف حظوظ الديمقراطيين وكمالا هاريس في الفوز .
توازات إقليمية ذات مصالح مشتركة
أنه تقاطعٌ مصلحي واضحٌ، لكن يبقى أن تدخّل موسكو المفاجىء في توقيته يرسمُ علامات استفهام عدة، لا سيما تلك المتعلّقة بهدف زيارة سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي سيرغي شويغو الى أذربيجان بعد طهران، في ظلّ تصاعدِ التوتّر بين إيران وأذربيجان حليفة إسرائيل، وما يمكن أن تكون في حيازة الكرملين معطيات ومعلومات عن ذود آذري مع إسرائيل لضرب إيران .
هكذا، بين اختيار يحيى السنوار رئيساً لحماس ودخول موسكو على خط التوتّر الإقليمي لكبح جماح إيران الانتقامي، يمكنُ فهم المشهدية الحالية حيث تعيش المنطقة وفق توازناتٍ إقليمية، لا بل تعدّتها الى توازناتٍ دوليةٍ من شأن ضربها التسبّب بمواجهة دولية على أرض الشرق الأوسط، الأمر المستبعَد حالياً في مراكز القرار الدولي .