تعيش المنطقة حالياً مرحلةً من أخطر وأدق المراحل حيث كل الأخطاء الحسابية ممكنة وكل الهفوات المدمِّرة محتملة.
سباقٌ حادٌ بين التسوية والحسم
المنطقة دخلت حالياً في سباقٍ حادٍ بين إمكانية حصول تسوية على نارٍ قويةٍ وبين انتظار ساعة الحسم في واشنطن لمعرفة هوية مَن سيشغلُ البيت الأبيض .
والأكيد أن نهج التنازلات والمسايرة والمراعاة لإيران أميركياً بدأ يضعفُ ويخفتُ لأن لا مصلحة للديمقراطيين بالمزيد من “تدليل و وتغنيج” إيران وميلشياتها سواء الحوثيين ( برفعهم عن قوائم الإرهاب أميركياً ) أو حزب الله اللبناني الذي يوليه الحزب الديمقراطي أهميةً كبيرةً من خلال التفاوض معه على ترسيم حدودٍ بحريةٍ وبرّيةٍ وتطبيق القرار 1701، وقد أصبح موقف الديمقراطيين في هذه المرحلة الحساسة من المعركة الانتخابية محرجاً، خصوصاً بعد الهجوم الصاروخي “المسرحي” على إسرائيل، وتكوّن رأي عام أميركي متعاطف معها، فضلاً عن تصاعد هجمات الحوثيين على ممرات البحر الأحمر وقصف إسرائيل لمرفأ الحُديدة ( الذي بدوره كان قصفاً مسرحياً لكونه أراد إحداث مشهدٍ تهويليٍ بنيران المخازن النفطية بعدما انسحبَ الحوثيون من مواقع المرفأ قبل الغارات بساعة)، فيما الجمهوريون مستعدين للعودة الى محاصرة إيران وتشديد العقوبات وإعادتها كلها.
طهران تتهيّب عودة ترامب الى المكتب البيضاوي
النهج الديمقراطي الذي بدأ مع الريس الأسبق باراك أوباما، واستمر مع الرئيس جو بايدن والقاضي بمهادنة إيران ومسايرتها والتفاوض معها على مكاسب لها مقابل مكاسب أميركية، لم يعد يجدي الديمقراطيين أنفسهم نفعاً، في وقت لا تزال طهران تراهن على إمكانية عودة وتيرة التنازلات الديمقراطية لها في هذه المرحلة الانتخابية الدقيقة في الولايات المتحدة، إذ أن طهران تعتقد بأن الرئيس جو بايدن قد يكون بحاجة لإنجاز إقليمي يعزّزُ حظوظ مرشحته كمالا هاريس الانتخابية بالعودة الى البيت الأبيض، ما يشكّلُ امتداداً لسياساته، ما يعني بالمنظار الإيراني إمكانية عقد صفقة لم يفت الوقت عليها، لكن المعادلات باتت أعقد من ذلك بكثير، ويبدو أن القيادة الإيرانية تقرأ جدياً الوقائع والمعطيات وتتهيّب عودة المرشح دونالد ترامب الى المكتب البيضاوي لتظهير وترجيح إحدى الدفتَين في الصراع الإقليمي القائم.
المنطقة بين منطقي الاعتدال والتشدّد
المنطقة اليوم أمام منطقَين يتصارعان تارة بالمباشر وطوراً بالواسطة :
منطقُ اعتدالٍ إسلامي عربي متمثّل بالدول العربية والخليجية،
ومنطقْ متشدّدٌ إسلامياً ( الإخوان المسلمين – ولاية الفقيه …)
نجحَ من خلال محور ما يُسمّى بالمقاومة والممانعة في استقطاب قسمٍ من الرأي العام الإسلامي والعربي من خلال اللعب على مشاعر الشعوب العربية والإسلامية حيال قضية فلسطين والقدس، ما عزّزَ الى حين فرص سيطرة المتشدّدين والمتطرّفين من محور المقاومة والممانعة على المشهدية الإقليمية، فكان ما كان من استغلالٍ للمشاعر والعنتريات والشعارات الكبيرة بمحو إسرائيل من الوجود ورميها في البحر والى ما هنالك سعياً للتجييش والتعبئة … وكل هذا لهدفٍ واحدٍ هو تمكين محور المقاومة والممانعة من السيطرة على عواصم عربية مهمة وقيادة شعوبها.
ترامب وأولوية إنهاء مسألة غزّة
التحالف الأميركي- البريطاني في البحر الأحمر ضعيف في إيذاء الحوثيين كما يجب رداً على اعتداءاتهم المتكرّرة والمتعاظمة ( دائماً انطلاقاً من سياسة واشنطن الديمقراطية بالمسايرة والمراعاة )، وهذا ما يعزّزُ الاعتقاد لبنانياً بإمكانية استمرار التصعيد في الجنوب على منواله حتى ما بعد الانتخابات الأميركية في شهر تشرين الثاني المقبل، وانطلاقاً من هذه المعادلات فإن عودة دونالد ترامب المرشح كرئيس للولايات المتحدة الأميركية يمكن أن يقلبُ الموازين، حيث من جهةٍ الرئيس ترامب وفريق عمله يدعمان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول مسألة إنهاء موضوع غزّة والقضاء على المنظمات الإرهابية كافةً ليتسنّى لإدارته العودة الى إطلاق مفاوضات سلام إقليمي على غرار اتفاقيات أبراهام قبل انتهاء ولايته السابقة.
ومن جهة أخرى، فإن الرئيس ترامب متى عاد الى المكتب البيضاوي فإنه سيركّزُ على إنهاء المنظمات الإيرانية في المنطقة وفي طليعتها حماس والجهاد من ضمن رؤيته بدخول قوات عربية- دولية الى القطاع لتولّيه بعد الانتهاء من الجناح العسكري لحماس والجهاد.
ترامب والضوء الأخضر الأميركي لإنهاء حالة حزب الله العسكرية
بالنسبة الى الجنوب اللبناني، ولأن السلام الأبراهيمي الجديد بحاجة لوقف الحروب والصدامات في المنطقة، فمن المرجّح وفقاً للمعلومات والمعطيات المتقاطعة أن يذهب الرئيس ترامب الى منح إسرائيل الضوء الأخضر لإنهاء الآلة العسكرية لحزب الله اللبناني بعد إنهاء حماس عسكرياً.
و بالتزامن، سيعيدُ الرئيس ترامب سيف العقوبات الخانقة مسلتاً على الإيرانيين بالتوازي مع الاهتمام بإنهاء وجود وكلاء إيران الإقليميين عبر تهديد طهران بإلغاء تلك الميليشيات كي لا تتعرّض للمزيد من الضغوط والحروب خصوصاً في لبنان واليمن والعراق .
وبناء على ذلك، فإن إدارة ترامب تتجه الى حرمان إيران من السلاح النووي …فإذا تجاوبت إيران مع هذه الخطة الأميركية، تفتحُ أبواب سقوطه حتماً من الداخل، وإن لم تتجاوب فإن ترامب قادرٌ عندها على اللجوء الى الخيارات العسكرية من خلال إعطاء إسرائيل الدور العسكري بحماية الأميركيين ودعمهم، وبالتالي لن تكون المرة الأولى التي تضرب واشنطن إيران مباشرةً، بحيث نذكر بأنه في عهد الرئيس الراحل رونالد ريغان دمّرت القوات الأميركية ¾ البحرية الإيرانية ولم تتجرأ طهران على الردّ على الهجوم في حينه.
كما أن حظوظ الضربة ستكون قوية اذا ما أمعنت طهران في تخصيب اليورانيوم، وعندها قد يدعم الديمقراطيون هذه الضربة لأن ثمة خطاً أحمر “بالعريض” لدى الأميركيين، جمهوريين وديمقراطيين، مفاده عدم تمكين إيران من امتلاك القنبلة النووية لتجنّب سباق تسلّحٍ نووي خطير في الشرق الأوسط وخصوصاً من قبل دول الخليج الحليفة للأميركيين وفي طليعتها المملكة العربية السعودية التي بدأت بالاتفاق مع الصينيين، ومن دون انتظار موافقة الحليف الأميركي، ببناء ترسانة صواريخ باليستية ضخمة وخطيرة تضمُّ إنشاء معامل لصناعة الصواريخ الى إنتاج 3 أنواع من الصواريخ الباليستية.
ولا ننسى أنه في عهد الرئيس ترامب، قُتِل قاسم سليماني مهندس السياسة الإيرانية في المنطقة،
وفي هذا الأطار ومَن يعلمُ بخلفيات فكر الرئيس ترامب يدركُ أن أي ضربة أميركية إذا حصلت لإيران، فلن تكون “إحتلالية” بل ضربة موضعية بعد محاصرة نظام الملالي بوقف التصدير النفطي للصين ومنع أي دولة من شراء النفط الإيراني، ما سيحرمها من مداخيل يفاقم وضعها الاقتصادي والمعيشي الداخلي.
سياسةٌ أميركيةٌ “مائعة” حتى آذار المقبل
إدارة ترامب ستعملُ على إضعاف نظام الملالي وإسقاطه إذا اقتضى الأمر، لكن وبالتزامن مع مساعدة الشعب الإيراني وقد بات 70% منه ضد نظامه الحالي، فيما سيفرض ترامب على النظام الإيراني شروطاً بخلاف شروط إدارة بايدن ” المائعة “.
وفي كل الأحوال، لن تتظهّر سياسات الرئيس ترامب تجاه المنطقة، اذا فاز بالعودة الى البيت الأبيض قبل شهر آذار من العام المقبل 2025 ما لم يحصل أي تغيير أو أي مفاجأة غير متوقّعة تقلب مجدًداً الحسابات والمعادلات.
ومن بين دول المنطقة التي سوف تتركّز عليها سياسات ترامب الجديدة لبنان، بحيث من المتوقَّع أن يعود موضوع تسليح الجيش اللبناني الى طاولة البحث انطلاقاً من نظرة ترامب لدور الجيش ، والتي لا تمانعُ في فرض قيودٍ على الجيش لإلزامه بتنفيذ خطة إعادة السيطرة على كافة التراب اللبناني الخارجة عن سيطرة حزب الله، ومنع الأخير بالتالي من التوسّع والانفلاش ميدانياً .
طبعا مثل هذا الرهان سيبدو لبنانياً رهاناً جنونياً، إذ سيعني احتمالات المواجهة بين الجيش وحزب الله إلا أنه يبقى احتمالاً على لبنان الاستعداد له.