كتب جورج أبو صعب:
إضافةً الى الغرابة التي تشهدُها الساحة الشرق أوسطية على الصعد كافة الديبلوماسية والسياسية والعسكرية والأمنية والتطورات النوعية في المواجهة إستخباراتياً وأمنياً وعسكرياً، إنسحبت الغرابة نفسها في هذا المشهد على الإزدواجية القائمة بين التصارع فوق الأرض والتخادم في الخفاء الى حدٍّ يمكننا القول: إن إسرائيل حتى الساعة تخدم إيران وإيران تخدمُ إسرائيل، فالأولى تخدمُ الثانية في تعظيم شأن هجماتها الصاروخية وتكبير حجم التهديد الإيراني لها، فيما الثانية تخدم الأولى في التحاقها بالقضية الفلسطينية وقيادة المواجهة ضد “العدو الصهيوني”، ليبقى بذلك محور المقاومة متمحوراً حول إيران، ومحور إسرائيل نقطة المواجهة ومصدر توجيه الممانعة والمقاومة.
إسرائيل تساهمُ مساهمةً مباشرةً في تعظيم وتكبير القصف الإيراني لها لإظهار نفسها مصدر تهديدٍ وجودي مستمرٍ ومتعاظمٍ لها، وبالتالي الاستمرار في استجرار العطف والدعم الغربيَين، وبخاصة الأميركي والأطلسي ونكاد نقول ونجزم بإن إسرائيل يناسبها تعاظم الأخطار عليها، وقد تكون تساهم بشكل أو بآخر في هذا التعظيم وفي تكبير أحجام الهجمات الصاروخية الإيرانية والميليشياوية عليها، خصوصاً عندما تشعر بأن تلك الهجمات لا تُعطى حقها في الإعلام والرأي العام المناهض لمحور المقاومة وإيران، وتعتبرها مسرحيات.. فتلجأ الى التشدّد في اعتبار ما تتعرّض له تهديداً مصيرياً وجودياً جدّياً، فتذهبُ الى حدّ التركيز على قوة الصواريخ الإيرانية ومفاعيل قصفها من خلال بثّ صورٍ جوية لمطارٍ قديمٍ مهجورٍ منذ زمن أو مصنعٍ قديم قيد الهدم للدلالة على “صوابية التهديد الإيراني الصاروخي” وحقيقته ومفاعيله.
إذ إن أفضل ما يناسب إسرائيل هو إظهار إيران على أنها “رأس المقاومة” وذلك لتأمين استمرارية دور طهران ونظام الملالي التخريبي والتدميري للمنطقة تحت شعار “فلسطين والقضية الفلسطينية وتحرير القدس الشريف”، وما الى هنالك من شعاراتٍ أبعد ما تكون عن اهتمامات إيران الحقيقية.
وفي هذا الإطار، يجب ألا ننسى المكر والخداع اللذين تلجأ اليهما حكومات إسرائيل كلما دعت الحاجة والمصلحة، فنذكر على سبيل المثال عندما قام بنيامين نتنياهو منذ سنوات، وكان حينذاك رئيس وزراء أيضاً، بإرسال مُسيّرة (درونز) الى عمق الضاحية الجنوبية في بيروت للتجسّس على مصنع إنتاج مُسيّرات أو دراستها وتحليلها، ويومها انبرى الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله ليُهدّد ويتوعّد بالردّ، وكان لبنان في حينه لا يزال في ظل اتفاق 2006 وقواعد الإشتباك التي نصّ عليها، فوضعت إسرائيل يومها في آليةٍ عسكريةٍ دمى وأرسلتها الى منطقة نفوذ الحزب في مزارع شبعا، فقصف حزب الله الآلية والدمى، وجاءت الصحافة الإسرائيلية نفسها لتفضح هذا السيناريو في حينه، فلم يسقط جنديٌ إسرائيليٌ واحد.
وبالمثل، وقبيل الانتخابات في إسرائيل، وعلى الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل، إدّعى بنيامين نتنياهو اكتشافه أنفاقاً لحزب الله فهُرع الإعلام العربي والدولي لتغطية الحدث ليتبيّن لاحقاً، وعلى لسان الرئيس نبيه برّي، أن تلك الأنفاق كانت مشيّدة منذ زمن الوجود الفلسطيني لمنظمة التحرير في لبنان العام 1982، فيما التزم حزب الله بالصمت يومها من دون ردّ أو نفي الإدعاء الإسرائيلي.
من هنا يمكن الاستنتاج أن إسرائيل لا تديرُ فقط لعبتها القذرة، بل وأيضاً لعبة الخصوم، ففي العُرف العسكري والاستخباري السائد في إسرائيل يُمنعُ منعاً باتاً نقل صورٍ جوّية أو فوتوغرافية لقواعد أو مواقع عسكرية إلا ما تسمحُ به السلطات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية من مشاهد تبثّها حول الهجمات الإيرانية الصاروخية عليها، والحالة هذه مَن يستطيع أن يضمن للمُشاهد المتلقّي بأن هذه المَشاهد التي تُعرَض تعكسُ حقيقة الحدث موضوع الخبر والتعليق عليه أو الموقع المزعوم إصابته أو استهدافه؟ وما الذي يمكن أن يؤكد بأن المواقع التي تُبثُ صورها هي التي استُهدفت وبالصواريخ المزعوم استخدامها؟ من هنا فإن من مصلحة إسرائيل استمرار الدور الإيراني في المنطقة لمنع الدول العربية والخليجية من النهوض والازدهار والتقدّم خوفاً من هذا النمو والتقدم وتأثير ذلك على ريادتها هي في المنطقة، فإسرائيل ليست عدوةً للإيرانيين سوى بملف واحد أحد لا غير سواه: الملف النووي الذي يشكل النقطة الخلافية الوحيدة بين البلدين في ظل تواطؤ غربي في تمكين إيران من امتلاك القدرة النووية، فيما يغيبُ عن بال الكثيرين أن تلك القدرة النووية أُعطيت لإيران منذ زمن من قبل الغرب، وبالتالي حصلت إيران على القدرة النووية ووصلت الى قدرة تخصيب يورانيوم بنسبة 90% متساويةً بذلك في نسبة التخصيب مع إسرائيل.
ما ينقصُ إسرائيل وإيران إجراء التجربة النووية ليكتمل البرنامج النووي للبلدين وبالتالي بات من المتوقّع أن يبدأ سباقُ تسلّحّ نووي في المنطقة، كما من المتوقّع أن يزداد الصراع الإسرائيلي- الإيراني النووي بينهما لا سيما وأن إسرائيل باتت على يقين من قدرة إيران على أذيتها صاروخياً كما حصلَ منذ أيام، الأمر الذي يحملنا على التساؤل المشروع عن السبب الذي أدّى بإيران الى انتظار كل هذه الفترة وعدم المبادرة في إظهار مخالبها المؤذية لإسرائيل أقله منذ “طوفان الأقصى”، هذا لأن لنظام الملالي حساباته ومصالحه والتخديم على القضية الفلسطينية ومناصرة المظلومين، وفي النهاية جاء الردُّ الإيراني ليعرّي حقيقة قدرة إيران على المواجهة المباشرة “لو أرادت”، لكن ليس كرمى لفلسطين ولا كرمى للأقصى بل كرمى لمصالحها هي التي تأتي في المرتبة الأولى، فيما نسمعُ اليوم مرشد الثورة يقول بصراحةٍ إن إيران لا تتسرّعُ، وعلى حزب الله ووكلائها حمل كامل عبء المواجهة.
هي حربُ تخادمٍ وتصادمٍ في آن، و”العترة” على مَن يصدّقُ الإثنين.