في قراءة موضوعية هادئة وشاملة عن بعد، ومن خارج سياق الأحداث اليومية وغبارها، يتبدّى أن أبرز ما حقّقه حزب الله في السنوات والأشهر الأخيرة، ولا سيما منذ ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، ومع انطلاق “طوفان الأقصى” في غزّة وحتى الساعة، ليس فقط دكّ الإسفين الأخير في نعش الدولة والمؤسسات وإسقاط الدستور، بل أكثر من ذلك ضرب مقوّمات الوحدة الوطنية والمشاركة السياسية المشروعة في حكم البلاد وزرع الفرقة والانقسام الحادَين بين اللبنانيين انطلاقاً من هيكليته الدولتية ومصالح أجندة ولي أمره الخارجي.
الحزب يُبادر ويُفاوض عن الحكومة واللبنانيين وفق ما ترتأيه مصالحه
نصّت الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية على أن “لكل مواطن الحق والفرصة بأن يُشارك في سير الحياة العامة، إما مباشرة أو عن طريق ممثلين مختارين بحرّية، وأن ينتخب في انتخابات دورية أصلية وعامة وعلى أساس المساواة، على أن تتمّ الانتخابات عن طريق الاقتراع السرّي، وأن تضمن التعبير الحرّ عن إرادة الناخبين “، من هنا
إذا توقّفنا قليلاً عند مضمون هذا النص القانوني الأممي، نلاحظ أن المشاركة السياسية تتجلّى في إسهام المواطن بالمسائل السياسية العامة في إطار مجتمعه السياسي، وذلك من خلال القدرة على استخدام وسائط التأثير أو الرفض أو الاعتراض، وكذلك في تمكين المواطن من المشاركة عبر حق التصويت وإبداء الرأي بشكلٍ مباشر أو غير مباشر من خلال المجالس التمثيلية أي البرلمان … فالمشاركة السياسية اذاً هي تمكين الفرد من أداء دوره المؤثّر في الحياة السياسية لمجتمعه والإسهام في وضع الأهداف والآليات،
فأين اللبنانيين من هذه الحقوق والآليات في ظل مصادرة حزب الله لمصيرهم؟ فهو الذي يُقرّر الحرب والسلم من دون العودة الى اللبنانيين، وهو الذي يُبادر في السياسة الخارجية ويُفاوض إما مباشرةً أو بالواسطة بحسب ما يرتأيه، وهو الذي يُديرُ حكومةً بدل أن يكون العكس صحيحاً، والحكومة تغطي عليه وتأمن له الواجهة الرسمية مع الخارج، والحزب هو الذي يجرّ لبنان الى الويلات والحروب والمواجهات المجانية، في حين لا مشاركة من سائر اللبنانيين ولا تأييد له ولنهجه …
الحزب ينتهج سياسة التفرّد بالقرارات وإلقاء اللوم على الآخرين
فضلاً عن كل هذا، ينتهك الحزب مفهوم التعدّدية والثوابت اللبنانية التاريخية التي قام عليها لبنان الدولة والصيغة والكيان، فمفهوم المشاركة السياسية تعني قبل كل شيء تمكين اللبنانيين من المشاركة في صناعة القرار السياسي من خلال المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية أي المشاركة في اتخاذ القرار الوطني أي القرار السياسي الرسمي … فأين مشاركة الحزب للبنانيين في القرارات الرسمية وأهمها قرار الحرب والسلم وهو ليس سوى مكوّن من بين مكوّنات لبنانية أخرى سياسية؟ وأين الاعتداء على لبنان من قِبل العدو الإسرائيلي قبل 8 تشرين الأول كي يعتبر الحزب لبنان بحالة حرب، وهو الذي أعلنها واندفع اليها وها هو اليوم يلوم اللبنانيين على عدم التضامن معه؟
احتكار حزب الله لمصائر اللبنانيين حرمهم من الإندماجية السياسية والمجتمعية
يُجمعُ فقهاء علم الاجتماع السياسي على اعتبار أن “أي نظامٍ سياسيٍ يتشكّل من أفراد منغمسين نفسياً في قرارات الدولة (لا الدويلة)، ولهذا الانغماس وجوه عدة تتفاعل مع النظام وبدرجات متفاوتة، وهذا يتوقّف على أي مدى يسمح النظام السياسي بحق المشاركة والاندماجية السياسية ..”، فالنظام السياسي اللبناني ومن خلال نشاطه الانتخابي البرلماني وقدرة التأثير على القادة والمسؤولين الرسميين اللبنانيين والنشاط التنظيمي في منظمات وأحزاب، من المفترض أن يسمح للأفراد بالانغماس المُشار اليه أعلاه، إلا أن حزب الله احتكر، وبموجب فائض قوته المادية، المشاركة السياسية الفاعلة فعطّلَ الرئاسة الأولى من خلال تعطيل جلسات الانتخاب، كما وعطّلَ المشاركة السياسية الفاعلة من خلال إدارة ظهره لِما يريده ويقوله اللبنانيون، محتكِراً بذلك تقرير مصيرهم جميعاً، فانتفت المشاركة ومعها بدأت تنتفي ” الاندماجية ” المجتمعية والسياسية بينه وبين سائر المكوّنات السياسية.
إنعدام مبدأ المشاركة يحوّل الأنظمة الحاكمة الى الديكتاتورية
من حق كل لبناني أن يُشارك في العلم والقانون والدستور وعلم الاجتماع السياسي في القرارات المصيرية، وبخاصة في المجتمعات التعدّدية الديمقراطية لكي تتثبّت الشراكة ومعها المشاركة الحقيقية في إدارة الحكم والبلاد، وفي هذا السياق يقول العلّامة بوتنام روبيرت أنه “ليس من المقبول ولا المعقول ولا المشروع أن يُزجَّ شعبٌ بأكمله في حرب أو أزمة محلية أو خارجية من دون أن يشارك ويبدي رأيه عن طريق الاستفتاء أو مناقشة المسؤولين طالما أن مَن على رأس النظام يتّخذ القرارات باسمه ولمصلحته (وليس لمصلحة فريق منه دون الآخرين) وما دامت باسمه ولمصلحته فإن من حق المواطن الاهتمام بنوعية هذه القرارات والتساؤل حول صحتها وأسبابها …”.
هذه هي متطلّبات المشاركة في العلم والفقه السياسي، ومن هنا فإن المشاركة التي ضربَ حزب الله عُرض الحائط بها تتصل مباشرة ببنية النظام السياسي وآليات عمله، سواء لناحية التأييد أو المعارضة، فالمشاركة تبقى روح الديمقراطية فاذا انتفت تحوّل النظام السياسي الى دكتاتورية مقنّعة تأخذ البلاد والشعب الى صراعات داخلية غير محدودة لا في زمان ولا في مكان، مع تمزّق النسيج التفاعلي الاندماجي بين مكونات المجتمع السياسي.
مبرّرات وجود الحزب ومصالح راعيه الإيراني
يقول العلّامة محمد الأحمري: ” … من دون المشاركة السياسية والشعور بالكرامة التي يؤسس لها كونه شارك في اختيار مَن يتّخذ القرارات الأساسية لنفسه ومجتمعه، فإنه يبقى ساخطاً ومنعزلاً يعاني شعور الإقصاء والفساد والاستبداد، ويرى مزاج الفرد أو رأي الأقلية ومصلحتها، مصدر تحكّم في مصائر الشعب …”
وهذا بالضبط ما نحن عليه في لبنان حالياً بسبب استبداد الحزب ونهجه المصادِر للقرار الوطني والعازل باقي المكوّنات عن القرار المصيري في وطن واحد وأرض تجمع بين جميع تلك المكوّنات.
إزاء كل هذا الوضع الشاذ الذي يحكم لبنان ويدير دفّة مصيره، فإن حزب الله الذي يُعيبُ على الآخرين أطروحاته حول التقسيم والفدرلة وسواها، تراه هو نفسه السبّاق الى تكريسهما على أرض الواقع الجيو سياسي من خلال ليس فقط سطوه على مقوّمات الدولة وسيطرته على مفاصلها انتقائياً وعرفياً وقمعياً، بل أيضاً والأهم من خلال استبعاد المكوّنات اللبنانية الأخرى المؤلِفة للنسيج الاجتماعي والسياسي والوطني من كافة القرارات المصيرية وعلى رأسها قرار الحرب والسلم، وبالتالي ضرب الشعور بالانتماء الواحد لأرض واحدة ومصير واحد ودولة واحدة … فحزب الله حقّقَ التقسيم في النفوس قبل الميدان … وهو أول مَن يُقسّم ويٌفرّق بين ” دولته ” ودولة الآخرين” … وها هو يُمعِن في “فدرلة” البلاد من خلال إطلاق أولويات دويلته وأجندتها وسياساتها الخارجية وسلاحها، وحتى فلسفته لمبرّرات وجوده السياسي المتعلّقة بالراعي الإيراني ومصالحه.
الاستقرار السياسي يرتكز الى شرط التعددّية المجتمعية
الحزب حرمَ لبنان استقراره السياسي بعد أن حرمَ اللبنانيين من دولتهم ومؤسساتها وإعادة تشكيل السلطة وسير المرافق والنهوض … فالاستقرار السياسي من أبرز دعائمه ” … وجود تجانس فكري وثقافي وإيديولوجي بين القوى السياسية والاجتماعية المتفاعلة داخل نمط الحكم السائد … ومشاركة سياسية في عملية صنع القرار السياسي وكلها ذهبت هباءً مع الحزب …
وفي هذا السياق، يقول الدكتور رعد الألوسي بما ينطبق تماماً على الواقع اللبناني: ” … هناك ولاءات متعدّدة ومتداخلة ومتدرّجة داخل كل مجتمع قد تتناقض وقد تتفق، وأن اتفاقها يُفضي الى حالة من الاستقرار مثلما يُفضي اختلافها الى عدم الاستقرار السياسي، وذلك يتوقّف على شرط التعدّدية الأساسي وهو الاعتراف بانقسام البلد الى فصائل وليس بإنكاره أو أن تكون التعدّدية مِعبراً لإنجاز نوعٍ من المصالحة الوطنية كشرط لظهور نخبة وطنية جديدة مكرّسة لقضية التقدّم …”
فحزب الله ضربَ نهائياً الانسجام الوطني … وأطاح بالمشاركة السياسية … بإمكانية إعادة بناء دولة واحدة وموحدة … وهذه هي الحقيقية المُرّة.