في زمنٍ تحوّلت فيه "البيئة" من قضية إنسانية إلى شعار يُفصَّل على قياس المصالح، يطلّ من الشوف نموذج جديد من الخطاب الشعبوي الذي يتستّر خلف "اللون الأخضر" لتصفية الحسابات السياسية الضيّقة.
آخر فصول هذه المسرحية تُكتب اليوم في البعاصير، حيث تُقاد حملة منظّمة ضد بعض الكسّارات المرخّصة، بذريعة "حماية الطبيعة"، فيما الحقيقة أبعد ما تكون عن البيئة، وأقرب إلى حسابات انتخابية بحتة.
فالكسّارات المستهدفة مرخّصة قانوناً منذ عام 1975، أي منذ نحو خمسين سنة، وتعمل وفق المعايير البيئية المفروضة من الوزارات المختصّة. وهي تشكّل مصدر رزق أساسي لأكثر من 42 عائلة من أبناء البلدة، يعيشون على مردودها اليومي، ويعتبرونها ركيزة استقرارهم الاجتماعي والمعيشي.
ورغم هذا الواقع، تقود النائب حليمة قعقور حملة شرسة ضد هذه المنشآت عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الكواليس السياسية، مستخدمةً شعارات "البيئة" كأداة تعبئة شعبوية، فيما تتجاهل عمداً المعامل الكبرى التي تشكّل المصدر الرئيسي لتلوّث المنطقة، وفي طليعتها معامل الترابة الواقعة في قلب البعاصير. فهل حماية البيئة تُمارس بانتقائية؟ وهنا تجدر الإشارة إلى أن العقار المذكور في تقرير النائب حليمة قعقور كان قد استُخدم سابقاً كموقع لرمي النفايات ومكبّ عشوائي، وهو ما تسبّب بأضرار بيئية حقيقية في حينه.
والمفارقة أن عمّ النائب قعقور، أبو سعيد قعقور، كان يملك كسارة في البلدة نفسها منذ أكثر من 43 عاماً، ولا تزال تعمل حتى بعد وفاته قبل عامين، وهي التي وفّرت للعائلة دخلاً مكّنها من العيش الكريم والتعليم الجامعي. فكيف تتحوّل الكسارات اليوم إلى "عدو البيئة"، بعدما كانت بالأمس مصدر رزقٍ مشروع ومقبول؟
تحقيق ميداني أجراه موقع LebTalks كشف عن أن رئيس اتحاد بلديات المنطقة ماجد برو والناشط علي البدير يملكان أيضاً كسارتين خاصتين بهما علماً بان الكسارتين غير مرخّصتين قانوناً وتعمل من دون أي مستند رسمي صادر عن وزارة البيئة أو الداخلية، ومع ذلك، لم نسمع من قعقور أي انتقاد أو مطالبة بإقفال هاتين الكسارتين أو كسارة عمّها، ما يطرح علامات استفهام حول معيار الاستهداف وموضوعية الخطاب.
لا مخالفات بيئية مثبتة، ولا تقارير تشير إلى تجاوزات قانونية، بل حملة تُدار إعلامياً لتشويه سمعة قطاعٍ منظَّم قانونياً، وتشويش الرأي العام عبر لغة "شيطنة" مَن يعمل. والنتيجة: تهديد مباشر لأرزاق العشرات بحجّة الدفاع عن الطبيعة.
والأخطر أن إقفال هذه الكسّارات القانونية قد يفتح الباب أمام مشاريع مطامر نفايات في المواقع نفسها، ما يشكّل كارثة بيئية فعلية تفوق بأضعاف أي ضرر مزعوم من عمل الكسّارات. فهل يُعقل أن تُستبدل منشآت قانونية بمطامر ملوِّثة؟ أهذه هي الحماية البيئية التي يُنادى بها؟
البيئة لا تُحمى بالشعارات، بل بالسياسات المستدامة والمراقبة الفعلية للمصادر الملوِّثة الكبرى. ومن يريد حقاً الدفاع عن الطبيعة، يبدأ من ملف النفايات والمرامل العشوائية، لا من مؤسسات قانونية تؤمّن لقمة العيش لعشرات العائلات.
في الخلاصة، ما يُقدَّم كـ"معركة بيئية" ليس سوى مناورة سياسية بلباس أخضر، تختلط فيها الشعارات بالمصالح، ويغيب عنها الصدق لصالح الاستعراض. إنها حملة تُتاجر بالبيئة بدل أن تحميها، وتستهدف الناس قبل أن تستهدف الصخور.