بقدر ما كان مطلبُ انسحاب الرئيس جو بايدن من السباق الرئاسي في الآونة الأخيرة على كل لسان وشفة، سواء داخل المعسكر الديمقراطي أم خارجه، بقدر ما شكّلَ قرار انسحابه صدمةً، لا سيما وأنه اتخذه بعد انقضاء فترة أشهرٍ على بدء الحملات الانتخابية في مواجهة الخصم الجمهوري القوي دونالد ترامب.
- عقبات أمام كمالا هاريس
وبقدر ما كان متوقّعاً أن تحلَّ مكانه في متابعة السباق الرئاسي نائبته كمالا هاريس، بقدر ما شكّلت تزكيتها الفورية من قبل قسمٍ كبيرٍ من الديمقراطيين كمرشحةٍ للحزب الديمقراطي في مواجهة المرشح دونالد صدمةً، وإن حاول الجمهوريون إخفاء معالم هذه الصدمة، لأن هاريس يحيط بها الكثير من الموانع والتحفّظات ليس أقلها كونها إمرأة، الأمر الذي يشكّلُ سابقةً في تاريخ رئاسات الولايات المتحدة الأميركية التي غلبَ عليها العنصر الذكوري إن نجحت هاريس في دخول البيت الأبيض، وكذلك كونها من البشرة السمراء، وما سهّل على الرئيس الأسبق باراك أوباما الديمقراطي أن يشغل المكتب البيضاوي في البيت الأبيض كونه رجل ولو ببشرة سمراء، من دون أن ننسى بأن هاريس هي أيضاً من أصول مهاجرة أميركية آسيوية، ما يعني أن ترشحها وخوضها غمار السباق الرئاسي في مواجهة أحد أكبر وأعتى مناهضي الهجرة الى الولايات المتحدة، والذي كرّرَ منذ أيام أمام الإعلام أنه يعدُّ لأكبر عملية طرد مهاجرين من الولايات المتحدة فور توليه الرئاسية إذا نجح في الفوز، فدخول مرشحٍ من المهاجرين الى المكتب البيضاوي سيشكّلُ تطوراً تاريخياً فريداً من نوعه اذا ما فازت هاريس في الانتخابات.
- هاريس والكتلة العمالية الناخبة
من جهة أخرى، من المعلوم أن كمالا هاريس، التي شغلت مناصب قضائية في ولاية سان فرانسيسكو حيث كانت تشغل منصب مدعية عامة، وفي ولاية كاليفورنيا حيث كانت تشغلُ المتصب نفسه أيضاً قبل اعتلائها مقعدها في مجلس الشيوخ الأميركي، تمثّلُ التيار اليساري الأكثر حدّةً في قلب المعسكر الديمقراطي، وهي مَن كانت في الواقع تملكُ القرار والمبادرات في كواليس البيت الأبيض ومراكز القرار الفدرالي، ويُقال إنها كانت توجّه الرئيس بايدن في الكثير من السياسات والقرارات التي تمَّ اتخاذها.
بموازاة كل هذا، وانطلاقاً من المواقف المعلَنة منذ أمس الأول في الداخل الأميركي على ضفتي الجمهوريين والديمقراطيين، يبدو أن معسكر المرشح الجمهوري دونالد ترامب أكثر حذراً في مواجهة هاريس من مواجهة جو بايدن، ذلك أن هاريس قادرةٌ على لعب ورقة قوية يضعف فيها المرشح ترامب وهي “الورقة العمالية” أو ورقة الكتلة العمالية الناخبة، وهي المرشحة الديمقراطية الأكثر تقدّمية والتي تدغدغُ مشاعر وقناعات الناخب الأميركي العامل أكثر من المرشح دونالد ترامب، ولكن هذا لا يعني أن معركة كسب الصوت العمالي الضخم في الولايات المتحدة بات محسوماً لصالحها، فالوقتُ مُبكرٌ للخروج بمثل هذه الاستنتاجات .
- ذكورية المجتمع الأميركي وعنصريته
على صعيد آخر، تجب الإشارة الى أن إعلان الرئيس جو بايدن انسحابه من السباق الرئاسي كشفَ كذب الكثيرين من داخل صفوف الديمقراطيين الذين لطالما كذّبوا الأخبار التي كانت تردُ حول صحة بايدن وقدرته على متابعة المعركة الرئاسية، بحيث أكّد انسحابه بنظر الجمهوريين عدم أهليته أيضاً في إدارة الولايات المتحدة، وقد تعالت أصواتٌ جمهوريةٌ تطالبه بالاستقالة من منصبه لعدم الأهلية الصحية، لكن تلك الأصوات تدخلُ في سياق التجاذبات السياسية الداخلية التي تشهدها الولايات المتحدة.
ومن الطبيعي أن لا يغيب عن البال أيضاً احتمالية تجسد عدم موافقة قسمٍ من الديمقراطيين على وصول كمالا هاريس الى البيت الأبيض كإمرأة بنسبة كبيرة من خلال الامتناع عن التصويت في الخامس من تشرين الثاني المقبل.
- شراكة الاستراتيجيات والسياسيات والأوراق المستهلَكة
مهما يكن من أمر، فالأكيد أن نجم كمالا هاريس الديمقراطية سطعَ إثر انسحاب بايدن من السباق الرئاسي، وسبب موجة تأييد واسعة من داخل صفوف الحزب الديمقراطي تجلّت في أحد أبوابها بتجدّد تمويل الحملة الديمقراطية والتي بلغت حتى الساعات الأخيرة الماضية حوالي 61 مليون دولار، ما يثبتُ عودة الأمل لدى الديمقراطيين بالفوز في الخامس من تشرين الثاني في مواجهة المرشح ترامب.
أما العاملُ السلبي الأساسي الآخر سياسياً والذي يلعب ضد مصلحة هاريس، فهو أنها كانت شريكة مع الرئيس بايدن في سياسات الإدارة الأميركية منذ ثلاثة سنوات ونصف من عهده، وقد شاركته بالتأكيد في أكثرية القرارات والاستراتيجيات والخطط والمواقف، ما يجعلُ من ورقة هاريس الى حدّ ما “ورقة مستهلَكة” إن أردنا تحليل دورها بموضوعية،
إذ كونها شريكة رئيس لم ينجح في العديد من الملفات والأجندات الداخلية أو الخارجية، ما سيُلقي عليها عبء المحاسبة والمساءلة، وبالتالي قد تؤثر هذه الحالة على نسبة الثقة بالمرشحة هاريس.
باستثناء الرئيس الأميركي الأسبق أندرو جونسون، الذي انسحب من السباق الرئاسي في بداية حملته الانتخابية، فإن تاريخ الولايات المتحدة الأميركية لم يٌسجّل انسحاب مرشحٍ رئاسي من الحملة بعد قطع أشواط كبيرة، ولعل أبرز تحدٍّ على هذا الصعيد أمام حملة كمالا هاريس سيتجلّى في ضيق الوقت الذي يمكنها فيه “قلب موازين القوى” بعدما استنفد المرشح جو بايدن قسماً كبيراً من وقت الحملة من دون نجاحٍ في مواجهة المرشح دونالد ترامب،
فهل تنجحُ هاريس في إحداث خروق كبيرة ومؤثرة على سير النتائج والمعارك الانتخابية ضمن الأشهر الثلاث المتبقّية لها من عمر الحملات؟
الأكيد يبقى أن هاريس باتت مرشحة الحزب الديمقراطي حتى قبل انعقاد مؤتمر الديمقراطيين المقرّر في التاسع عشر من شهر آب المقبل في شيكاغو، والمفترض أن يُعلن مرشحه، وفي ذلك تطابقٌ كبيرٌ مع المعسكر الجمهوري الذي لم ينتظر مؤتمر الحزب مؤخراً في ميلووكي في اعتبار دونالد ترامب مرشحه الوحيد والوقوف خلفه صفاً واحداً خصوصاً بعد حادثة محاولة اغتياله الفاشلة في بنسيلفانيا.
المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة مفتوحة على شتى التطورات ومعها العالم الذي يترقّب ويحسب ويرسم استراتيجيات ما بعد الخامس من تشرين، تِبعاً لِما اذا فاز الجمهوري ترامب أو الديمقراطية هاريس … طبعاً ما لم تحدث تطورات مفاجئة وضخمة.