سوريا بين التغيّرات الجيو سياسية ومتطلبات النظام الإقليمي الجديد

syria

تشهدُ الساحة السورية إعادة تشكيل للمشهدية السياسية والعسكرية انطلاقاً من شمال سوريا حيث القوات التركية تحشدُ وتصعّدُ في منطقة إدلب، ليس حمايةً لإدلب بل لمنع تدفق اللاجئين السوريين عند اندلاع المعارك المقبلة في تلك المنطقة بين قوات النظام السوري والمتحالفين والفصائل المعارضة.

أنقرة تستجلبُ قوات الشمال السوري في منطقة إدلب لحسم الموقف في الشمال السوري من الآن وحتى نهاية العام الجاري على أبعد تقدير، فيما النظام السوري والعشائر المقاتلة والمتحالفة معه الى جانب الإيرانيين بصدد مقاتلة الميليشيات المتمرّدة في حلب، في الوقت الذي تُعلن فيه المعارضة أنها تريد مقاومة النظام في تلك المنطقة، خصوصاً بعدما شعرت بتخلي أنقرة عنها، ومن هنا يُتوقّع أن تشهد المرحلة المقبلة مواجهات كبيرة، ما يفسّر تصعيد تركيا للأوضاع الأمنية في الشمال وشرقي الفرات لممارسة ضغط كبير على الفصائل الكردية المدعومة من الأميركيين.

والجدير ذكره أن قَسَد حاولت مدّ يد السلام الى الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لكن الأخير رفضها لأن أولوياته حالياً هي المصالحة مع نظام بشار الأسد، وقد توسّطَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أجل إقناع الأسد بالمصالحة والسلام، لكن الأسد وضع لاردوغان شروطاً قَبِلَ الأخير معظمها، وهي:

-تسليم المعارضة للنظام، وقد وافق الرئيس التركي على ذلك.

-حجز أموال المعارضة وتسليمها للنظام وقد وافق عليها اردوغان.

-تسليم الضباط الفارين من الجيش وغير المشمولين بالعفو وقد وافق عليها الرئيس التركي.

-سحب السلاح من الميليشيات المعارضة وقد وافق الرئيس التركي أيضاً على ذلك، كما وافق على مؤازرة النظام السوري والإيرانيين في قمع أي تمرّدٍ من قبل تلك الميليشيات وبالتعاون مع الروس.

في المقابل، اشترطَ اردوغان على الجانب السوري فتح جبهة في شرق الفرات لكن الأسد رفض وكذلك الروس غير الراغبين في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية لأن أي عملية على شرقي الفرات ستعني لا محالة سقوط النظام الأسدي وفق تحذير أميركي وصل الى الجهات المعنية سابقاً.

من الواضح أن تركيا فشلت في إيصال الأخوان المسلمين على امتداد الوطن العربي من تونس الى ليبيا والى مصر فسوريا، ما جعل الرئيس التركي ينكفئ باتجاه “تصفير” مشاكله مع محيطه ولكن العملية الإرهابية الأخيرة في اسطنبول بضرب مجمّعٍ تجاري ومراكز توليد الطاقة الكهربائية أغضبت الرئيس التركي الذي شنَّ هجمات شمال سوريا وشرقها وصولاً الى مناطق شمال العراق، فيما واشنطن أوصت سكان شرق الفرات وقواها بضبط النفس في مقابل ممارستها ضغوطاً على أنقرة لوقف المسار التصعيدي ضد شرقي الفرات.

بالتزامن، سُجّلَ دخول أكثر من 700 ألف سوري الى سوريا من لبنان ما دفع بدمشق الى الطلب من أنقرة إرسال اللاجئين الى مناطق الشمال على دفعات لتتمكّن دمشق من استيعابهم وهي معضلة كبيرة يواجهها النظام حالياً.

أما على صعيد وضع نظام الأسد إزاء إسرائيل وحربها على غزّة ولبنان، فإن الأسد وبضمانات عربية خليجية ينأى بنفسه عن الدخول في مواجهة مع إسرائيل، وقد فُتِحت خطوط خلفية للتواصل بين النظام وإسرائيل في مقابل السماح له ببسط السلطة على الشمال السوري وفق بيان عمان والشروط العربية التي وضعت على الأسد ونظامه.

في المحصلة الميدانية والسياسية، يمكن القول إن الشمال السوري يتجه الى مزيد من التوترات والمعارك بعد الانتخابات الأميركية، وتوقّع عودة إدلب وعفرين والمناطق المجاورة للنظام السوري، الذي بدوره يتنفّس على “أوكسجين” العرب والروس والأميركيين الى حدٍّ كبير حتى ينفّذ كل ما يُطلب منه قبل تخليه عن السلطة في الوقت المناسب لولادة التسوية السياسية في سوريا مع تشكّل “الناتو الشرق أوسطي” وولادة عملية سلام حقيقية في غزّة مع إعادة إعمارها وعودة الغزاويين الى ديارهم وتشكيل حكومة فسلطينية توافقية بعيداً من الأذرع الإيرانية.

أما الجنوب السوري فيُسجّل حركة غليان سياسي وأمني وعسكري واستخباري حيث تجدّدت المطالبة الإسرائيلية بانسحاب قوات حفظ السلام من المنطقة، فيما واشنطن تضغطُ على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتخفيف الضغط عن المنطقة وتسليمه أهدافه المتعلّقة بضرب إيران قريباً حيث أن الجانب الإسرائيلي أبلغ واشنطن تصميمه على تدمير المفاعل النووي الإيراني بعد الانتخابات الأميركية.

انطلاقاً من المعطيات السورية أعلاه، يمكن استخلاص سلسلة من التوقّعات ليس أقلها:

1- شرق أوسط جديد تتغيّرُ فيه خرائط الدول وأنظمتها وتركيباتها الأساسية بدءاً من لبنان وسوريا.

2 – ناتو شرق أوسطي جديد في طريقه نحو الولادة ولعل إحجام الرياض في اللحظات الأخيرة عن الانضمام لدول بريكس مؤشرٌ على شيء ما يتمُّ إعداده على مستوى المنطقة، له الأولوية لدى الخليجيين وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية في ما يتعلق بمنظومة الأمن الإقليمي الجماعي المبني على التحالف العربي الإسرائيلي، وحلّ القضيتَين الكردية والفلسطينية، وإعادة كل من تركيا وإيران الى حجمهما الدولتي بعيداً من أي نفوذٍ إقليمي أو ميليشياوي، فاقتصاد الشرق الأوسط هو الأولوية والتنمية والسلام أجندات دول المنطقة وأنظمتها بعد التخلص من الميليشيات الإيرانية في ظل قبول إسرائيل لاحقاً بحل الدولتين.

3- بشار الأسد عاجزٌ عن مواجهة الإيرانيين والطلب منهم الخروج من سوريا، لكن بالمقابل يُنفذُ وعده بالتضييق على الإيرانيين وميليشيات إيران، ويسعى مع الروس لمنع اقتراب أي وجودٍ ميليشياوي أو إيراني من الجولان حيث توغّلت إسرائيل حالياً لقطع الطريق على حزب الله المرابض في المنطقة.

سوريا كما لبنان في عين التبدلات والتغيّرات الكبرى، وسوريا الرازحة تحت وطأة أزماتها قد تكون بوابة التغييرات الإقليمية والنظام الإقليمي الجديد لكن بعد مخاض كبير.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: