نجحت سوريا، ومعها الحكم الجديد فيها، في تخطي أصعب وأدق الامتحانات التقسيمية، سواء في الساحل مع العلويين، أو في شمال شرق سوريا مع الأكراد، أو في الجنوب من خلال انتفاضة جزء من أهالي السويداء ضد الحكم في دمشق.
وبهذا النجاح، تكللت الجهود في اللقاء الثنائي الباريسي مؤخراً بين سوريا وإسرائيل برعاية أميركية، حيث تم الاتفاق على آليات تعاون وتنسيق بين البلدين، لوضع ترتيبات أمنية وأطر سياسية للتعاون، تمهيداً لولوج طريق السلام.
مهما كان موقفنا من الرئيس أحمد الشرع، إلا أن الحق يُقال إنه نجح حتى الآن في تخطي الكمائن التي نُصبت له، بحكم تعاطيه معها بحكمة ودراية وبعد نظر.
مشكلتنا في هذا الشرق أن الشعوب بأكثريتها لا تقرأ، بل تنصت إلى ما يُروّج لها من شائعات، انطلاقاً من وجهة نظر قد تُخطئ أو تُصيب، مبنية على أحكام مسبقة أو على حجج واهية لتبرير أمور سياسية أخرى.
نقول هذا وصفاً للازدواجية القائمة في التعاطي مع الشأن السوري من الزاوية اللبنانية تحديداً:
فثمة معسكر كان حليفاً للنظام الأسدي البائد، ومنه حزب الله وحلفاؤه في محور إيران الإقليمي، يأبى إلا أن يشن حملات دعائية لتشويه وضرب صورة النظام الانتقالي الجديد في سوريا، وتحميله كل ما يحصل من انتهاكات في البلاد، في وقت أثبتت فيه الأحداث والتقارير الإعلامية والصحافية العالمية، وحتى الإسرائيلية، براءة النظام من تلك الانتهاكات، بل وأكثر من ذلك: ضلوع إيران وبعض أجنحة حزب الله في الأحداث الأخيرة، ولا سيما في السويداء، تجسيداً لموقف الشيخ حكمت الهجري الذي اختار طريق رفض الحكم الانتقالي بدعم إسرائيلي مباشر لم يعد خافياً على أحد.
وقد تبيّن بالأدلة أن السلطة كانت أبعد ما تكون عن الارتكابات التي أُلصقت زوراً وبهتاناً بها من قِبل المجموعات المتطرفة في السويداء، وحالياً تخوض مع الدولة صراعاً ومعارك لقمعها وإيقاف التطرف الإسلامي عند حدّه... فمن أقدر وأولى من أحمد الشرع على تولّي تلك المهام؟
كما أنه في أحداث الساحل، تم وضع تقرير مفصل عن تلك الأحداث، سُلّم للرئيس الشرع، وتبيّن من قراءته ضلوع تنظيمات متطرفة مدعومة من ماهر الأسد وفلول النظام السابق والإيرانيين، في محاولة لتفتيت سوريا واتخاذ الأحداث ذريعة للفوضى والانقسام.
وعلى الضفة الأخرى، ثمة بعض الأقلام والسياسيين والإعلاميين السوريين الذين لا يتوانون عن المضيّ في أسلوب انتقامي من سنوات الحرب الأهلية التي ارتُكبت فيها فظائع لا شك فيها بحق السوريين. فإذا ببعض هؤلاء يستسهلون أعمال التطرف المذهبي ويدعون للاقتصاص من الفئات التي ناصرت نظام الأسد خلال الثورة، وهذا بدوره مرفوض، لأن سوريا الجديدة لا تُبنى بالأحقاد والانتقام، ولأن مثل هذه التوجهات تضرب صدقية النظام الانتقالي وتُعطي نتائج عكسية.
سوريا ذاهبة إلى انتخابات برلمانية لإعادة إنتاج السلطة، وبالتالي لا استبداد، ولا تطرف، ولا حكم إسلامي في دمشق...
أما على الصعيد الخارجي، فإن أمام الرئيس أحمد الشرع خريطة طريق واضحة، تحظى بدعم أميركي–تركي–سعودي–خليجي–عربي–دولي، قوامها ما يلي:
1. رفض التصعيد العسكري مع إسرائيل
أكد الرئيس أحمد الشرع أن سوريا لا تسعى إلى فتح جبهة قتالية مع إسرائيل، وأن التوتر الحالي لا يعود لأسباب واضحة بعد سقوط النظام السابق.
كما أشار إلى أن وجود إسرائيل في سوريا تحت ذريعة مواجهة إيران قد فقد مبرراته، وبالتالي فإن القانون الدبلوماسي هو الطريق الوحيد لضمان أمن المنطقة.
2. الالتزام باتفاق فك الاشتباك لعام 1974
كرر الشرع تأكيده التزام حكومته باتفاق فك الاشتباك لعام 1974، وعدم استخدام الأراضي السورية كقاعدة للهجوم على إسرائيل.
3. تسهيل العلاقات الودية مع إسرائيل
وهي سياسة مدعومة باعتبارات أمنية. ويرى الشرع أن المشكلة ليست مع إسرائيل كدولة، وأن دمشق غير راغبة في تهديد أمن أي دولة.
4. العمل على خطوات انفتاح محتمل نحو التطبيع والسلام بشروط محددة
وقد أفادت مصادر أميركية باستعداد الشرع للانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم، بشرط توقف إسرائيل عن الضربات العسكرية داخل سوريا، واحترام سيادتها، والتفاوض بشأن الجولان.
وقد بدأ النقاش بهذا الشأن في باريس في اللقاء الثلاثي الأخير (سوريا – إسرائيل – برعاية أميركية).
5. موقف براغماتي يجمع بين حماية السيادة وتفادي الحروب وكسب الدعم الدولي
يسعى الشرع إلى تبني موقف براغماتي يجمع بين حماية سيادة سوريا وتفادي الحروب وكسب دعم دول الغرب ودول الخليج. ويستخدم ذلك كأداة ضغط على إيران وروسيا ضمن التوازن الجيوسياسي، ومن هنا يأتي رفضه الربط بين التسوية مع إسرائيل والقضية الفلسطينية، معتبراً أن القضية الفلسطينية هي مسألة أخلاقية، ولا يمكن الضغط على الفلسطينيين للتخلي عن حقهم في وطنهم.
وهذا الموقف تؤيده الرياض وعواصم الخليج والدول العربية، خاصة مع الإصرار على مطلب "حل الدولتين" كشرط للتطبيع والسلام لاحقاً.
خريطة الطريق هذه أنقذت سوريا، إذ رفعت عنها العقوبات، وفتحت أبواب الاستثمارات العربية والدولية، وجعلت حكم الرئيس الشرع يحظى بحماية إقليمية ودولية تمكّنه من إنجاز الكثير... والكثير.