سوريا في خضم عاصفة التغيير الجيو سياسي

joulani in hama

كتبَ جورج أبو صعب: موضع تجاذباتٍ وضغوطٍ واستفسارات غامضة بقدر ما يشكّلُ أحمد الشرع اليوم موضع تساؤلات وتجاذبات وضغوط، لكن الفرق بين هذا وذاك أن الأول كانت تدور حوله أُحجيات وتساؤلات حول قدرته ورغبته في التخلّي عن السلطة لصالح الحل السياسي ومساراته انطلاقاً من تخلّيه عن إيران وسيره في الخط العربي، فيما الثاني تدورُ حوله اليوم التساؤلات حول قدرته على السير في الحل السياسي وتقرّبه من الخط العربي الخليجي لرسم سوريا الجديدة.

حتى هذه الساعة ومنذ سقوط نظام الطاغية بشار الأسد والتساؤلات والنقاشات الحذرة تدورُ في أروقة القرار الإقليمي والدولي حول الذي حصل، ولا سيما حول تَصدّر أبو محمد الجولاني المشهد السوري كمحرّر للشعب السوري ومحور ومنقذ لسوريا.

دعونا نؤكد أولاً أنه لولا تقاطع مصالح تركية- روسية- عربية- خليجية-أميركية- إسرائيلية- إيرانية لما سقط بشار الأسد ونظامه، ولولا “قبة الباط” الروسية- الإيرانية لما كانت المعارضة السورية قد وصلت بسرعة قياسية الى قلب دمشق، ففي منطق العلاقات الدولية التناقضات في الحسابات لا تمنع التكامل في أخرى وهذا ما حصل لسوريا منذ أيام وإن كان ما حصل ليس وليد الصدفة ولا وليد اللحظة بل نتيجة استعداداتٍ وتحضيرات لأشهر كي لا نقول لسنوات لتتأكد فصولها في الليلة التي ذهبَ أحد زعماء المنطقة العربية ليأوي الى فراشه لاعناً الأسد وعناده واستكباره، معتبراً أن خيارات مواجهته بالقوة باتت تقوّي الساعد الإسلاموي كبديل لنظامه.

نعم، إنّ ما حدث كان منطقياً وإن لم يكن مفهوماً بالتمام، فجبهة “النصرة” التي تغيّرت الى جبهة “تحرير الشام” لم يُنظر اليها يوماً على أنها جيش تحرير سوريا، إلا أن الذي حصل هو أنه كان لا بدَّ من التكلّم مع قوة لإزالة نظام لا يزول سور بالقوة، لاسيما وأن جبهة النصرة أو جبهة تحرير الشام كانت بالنهاية مكوّنَة من أبناء المجتمع السوري الذي من أهدافه المعلنة العمل على سقوط الأسد ونظامه.

قد تكون الخدعة أحياناً وسيلةً بلوغ أهداف سامية وقد تكون وسيلة انحدار وسقوط لتلك الأهداف بحسب رأي المفكّر السياسي نيكولو مكيافيللي لكن في المشهد السوري فإن مكيافيلية “التوغّل” الإسلاموي بعباءة التحرير والإنقاذ لا تضاهيها إلا مكيافيلية ذبح شعب وتدمير بلد من قبل نظامه باسم سوريا وسيادتها وردّ التآمر الكوني على سوريا.

سوريا اذاً قد تكون أمام الاختيار بين مكيافيليتّين: مكيافيلية الهمجية الأسدية والطغيان والاستبداد الدموي لآل الأسد، ومكيافيلية الإرهاب الإسلاموي الذي يتوغّل على منصات ومنابر التواصل الاجتماعي وفي عقول ووجدان السوريين بحلّة التسامح والتصالح والانفتاح وتصحيح الأخطاء السابقة من أجل قيادة سوريا والسوريين الى برّ الأمان.

في الحقيقة، لم يكن أمام السوريين يوماً وفرةٌ في الخيارات فلطالما كان نظام الأسد من الوالد الى الابن يحكم وفق منطق حماية الأقليات ومقاتلة الإرهاب ومواجهة حركاته ومنظماته، ويقنع بعض السوريين بهذا المنطق لترسيخ سلطة قمعه الدموي لأبناء شعبه بالذات، ولطالما كانت المعارضة السورية متلبّسة ثوب الإسلاموية المتطرّفة، ولو أن أبو محمد الجولاني لم يُعلنها الى الآن “إمارة سوريا الإسلامية”.

في المقابل، يجب أن لا ننسى أن الملف السوري لم يكنن يوماً ملفاً تركياً إيرانياً روسياً فقط، ولم يكن فقط منصة استانا بل وأيضاً منصةً أميركية غربية إسرائيلية عربية خليجية، وفي هذا الصدد يجب أن لا يغيب عن بالنا أن الوضع السوري ممسوك أيضاً من هذا المحور، وقد عانى العرب والخليجيون من معاندة ومكابرة بشار الأسد ما عانوه، وقد فشلوا جميعاً في إقناع بشار بالعودة للحضن العربي والتخلّي عن الحضن الإيراني، لكن من دون جدوى وقد سقطت المبادرات والمحاولات والقمم العربية والمساعي الأردنية والبيانات الوزارية العربية الخليجية كلها دون تحقيق نتيجة حتى، وعلى الرغم من المسعى الروسي الضاغط في الآونة الأخيرة والذي نصحَ الأسد مراراً بالسير في الخيار العربي لرغبة موسكو في تقليص حدّة النفوذ الإيراني المتنامي في سوريا على حساب المعادلات الروسية المتخطّية للحدود السورية وانطلاقاً من التواجد في سوريا.

سوريا حالياً في مرحلة تسبق المرحلة الانتقالية والعرب في حيرة من أمرهم، فهم لا يستطيعون الا الترحيب بسقوط نظام الأسد ودعم إرادة وسيادة وحرية الشعب السوري والدولة السورية، وفي المقابل لا يمكنهم حتى الآن منح الثقة الكاملة لحُكم الجولاني، ومن هنا أتى اللقاء الوزاري العربي للخارجية في العقبة في الساعات الماضية والذي رافقته زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان الى ملك الأردن عبدالله الثاني للبحث في سبل تحقيق أمن المنطقة العربية في إشارة صريحة وواضحة لدعم المملكة أمن وسلامة الأردن، وبالتالي التضامن والتعاضد في مواجهة التغيّرات الجذرية في المشهد السوري ولا سيما تصاعد النفوذ التركي الإسلاموي غداة سقوط نظام الأسد، فأهمية وخطورة الوضع السوري بالنسبة للعرب والخليجيين تتلخصُ في أن سوريا مصدرُ قلقٍ جيو سياسي مستمر ودائم أمام الخيار الصعب بين نظام الأسد الإيراني الهوى والنفوذ والنظام الإسلاموي ابتركي الهوى بحيث تصعبُ لا بل تستحيلُ المفاضلة بينهما، إذ لكل واحدٍ منهما محاذيره وخطورته، وقد خاضت الأنظمة الملكية والأميرية في الخليج، فضلاً عن النظامين المصري والأردني، أشرس الحروب والمعارك ضد الإسلام السياسي أقله منذ العام ٢٠١١ وتفجّر ما سمي “بالربيع العربي”.

سوريا حالياً في خضم التغيّيرات الجيو سياسيّة الكبرى ولا نغالي إن قلنا أن التغييرات الحاصلة في سوريا سيكون لها أبلغ الأثر على مستقبل المنطقة ومن ضمنها لبنان، وقد يتأثر هذا البلد إيجابياً من الذي يحصل لاسيما في ملف حزب الله الذي بات محاصراً عسكرياً واستراتيجياً ومعرّضاً للسقوط الكامل في المستقبل القريب بعد انقطاع الأوكسجين الإيراني الأسدي عنه، وإقفال المعابر غير الشرعية بين البلدين، والرقابة الإسرائيلية المتواصلة جواً وبرّاً وبحراً، والحق بالتدخّل في أي وقت لضرب أية بنى تحتية للحزب على مساحة لبنان حسبما جاء في اتفاق الهدنة ووقف النار كما يحصل حالياً في سوريا أيضاً حيث تستمر إسرائيل في مسلسل ضربها للبنى العسكرية الاستراتيجية للجيش السوري على مساحة سوريا في ظل لا مبالاة المعارضة السورية أو الثوار السوريين وعدم استعداد أحمد الشرع للدخول في مواجهة مع تل أبيب بصريح كلامه الصحافي الأخير، في وقت توغّلت إسرائيل أو تكاد حتى عمق دمشق.

سوريا في لحظة حقيقةٍ صعبة ومعقّدة لكن ليست مستحيلة، ومن الصعب الآن التمييز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود، فالأمور في بداياتها والمعطيات متشابكة والمقاربات تتجاذبها من جهة عواطف الفرح ومن جهة أخرى مكامن القلق على الغد السوري، ومع ذلك ثمة حقيقة واحدة يجب ألّا ننساها: إنّ مستقبل سوريا بات بأيدي السوريين أنفسهم وكل ما سيأتي لن يكون بسوء الذي كان… لكن الغد يبقى المنتَظر…

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: