شجار البيت الأبيض.. وسقوط القانون الدولي

dt-vz

كتب جورج أبو صعب:

 بعد الصدمة العالمية التي شكّلتها المشاجرة المباشرة على الهواء بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والأوكراني فولوديمير زيلنسكي والتي خرجت عن المألوف في أكثر من تفصيل، بات من الواضح أن إدارة الرئيس ترامب تنتقل من مرحلة “الوسيط الشريف” بين روسيا وأوكرانيا الى مرحلة “الوسيط المتاجر” بأوكرانيا.

فاهتمام الرئيس دونالد ترامب بأوكرانيا لا يأتي بالضرورة من زاوية إنسانية عاطفية بقدر ما يأتي من منطلقات جيو سياسية واستراتيجية، ولنقلها بصراحة تجارية بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

الرئيس ترامب توصّل مع الرئيس بوتين الى تفاهمات بموجبها تأخذ موسكو لحسابها “المعادن النادرة” التي تقع في المناطق التي احتلتها موسكو في مقابل حصة الولايات المتحدة الأميركية من تلك المعادن، بحيث يتمُّ تقاسمها بين موسكو وواشنطن بناءً على اتفاقٍ يوقّعه الرئيس الأوكراني زيلنسكي في واشنطن، على أن يتمَّ إعلان وقف إطلاق النار بين البلدين والاتفاق على ضمانات وشروط وقف النار لأوكرانيا.

الرئيس فولوديمير زيلنسكي الذي كانت زيارته متوقّعَة للتوقيع على هذا الاتفاق جاءت بعكس ما خطط له الرئيس دونالد ترامب، إذ وصل زيلنسكي الى البيت الأبيض لا بنيّة التوقيع بل بنيّة التفاوض على التوقيع، الأمر الذي أثار الرئيس الأميركي وفريقه.

ما حصل في المكتب البيضاوي منذ يومين يحملنا للغوص في خفايا الحسابات الجيو سياسية التي يقوم بها الرئيس الأميركي وفريقه والتي لفهمها لا بدَّ من العودة بالتاريخ الى أيام الرئيس ريشارد نيكسون في الخمسينيات، يوم حصلت بعض التوترات في العلاقات بين الصين والاتحاد السوفياتي، آنذاك كانت نصيحة ثعلب السياسة الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر لنيكسون باستغلال الخلافات بين بكين وموسكو لشقّ الصف بينهما واستمالة الصين ضد الاتحاد السوفياتي.

كانت المعادلة الأميركية في السياسة الخارجية آنذاك استمالة الصين ضد “الدب السوفياتي” وقد أدّت السياسة الأميركية الخارجية هذه الى إسقاط الاتحاد السوفياتي بعد عدة سنوات.

في ولايته الأولى عام 2016، عكسَ الرئيس دونالد ترامب الآية الكسنجرية بناءً لنصيحة الأخير فاختار تقوية روسيا ضد الصين لفصل الأولى عن الثانية باعتبار  أن الثانية، أي الصين، هي الخطر الحقيقي على الولايات المتحدة الأميركية.

من هنا، نرى أن الرئيس الأميركي ترامب يستعيد تلك المعادلة مجدّداً بتقوية الروس على حساب الصينيين، وهذا ما يفسّرُ وقوف ترامب حالياً في ولايته الثانية الى جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والعمل على التفاهم معه لا لشيء سوى لإبعاد موسكو عن بيجين.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى فالصين تمتلك 20% من المخزون العالمي “للمعادن الحرجة والنادرة” كالحديد والنحاس والألمنيوم والبلوتونيوم والادأورانيوم وغيرها… الأمر الذي لا يمكن لواشنطن ترامب القبول به، ومن هنا سعي البيت الأبيض لإبرام “اتفاق المعادن” مع أوكرانيا في مقابل السلام ووقف النار، ومن هنا يجب أن لا نعتقد للحظة بأن اهتمام البيت الأبيض الجمهوري بالصفقة مع أوكرانيا هو محض وجداني عاطفي إنساني بل هو يخفي صراعاً أميركياً- صينياً خفياً لصدارة العالم في امتلاك المعادن والذي تخلله اتفاق أميركي- روسي على تقاسم معادن أوكرانيا.

من الناحية الجيو سياسية أيضاً، دعونا نذكر بأن الصراع الدولي الحالي يتركّز بين الولايات المتحدة والصين وروسيا على ثلاثة أهداف كبرى تتمحور حول 3 محاور استراتيجية: الممرات المائية التي تربط الشرق بالغرب ومصادر الطاقة كالنفط والنووي والغاز والمعادن الحرجة والنادرة… وعلى هذه المحاور الثلاثة، يدور الصراع الدولي حالياً بين القوى العظمى الثلاث المشار اليها أعلاه.

وانطلاقاً من هذا الصراع، دخلت واشنطن في منطق الصفقات وما الشجار بالأمس في البيت الأبيض بين الرئيسين الأميركي والأوكراني سور وجه من أوجه الشحن الأميركي في المواجهة الدولية والتي قد تذهب أوكرانيا ضحيتها في هذه المرحلة ما لم تستعد واشنطن رباطة جأشها ويتحرّك الأوروبيون بشكلٍ ضاغط لإعادة التوازن الى البوصلة الأميركية، علماً أن فشل التوقيع على اتفاقية المعادن في واشنطن جاء لمصلحة الأوروبيين الذين لم يكونوا موافقين على بيع أوكرانيا معادنها كاملة.

دعونا نقول بصراحةٍ وشفافيةٍ إن ما حصل في البيت الأبيض من شجار بين الرئيسين ترامب وزيلينسكي من المنظار الجيو سياسي  أعطى إشارة قوية بأن العالم بدأ يتغيّر تغيراً جذرياً وجوهرياً، فلم تعد واشنطن حليفة أوروبا ولم تعد واشنطن الضامنة لأمن وسلامة العالم وحقوق الدول والشعوب إلا بالقدر الذي يخدم مصالحها أولاً، الأمر الذي يستدعي من الأوروبيين اتخاذ القرار الجريء بالاتكال على الذات بعد اليوم وتقوية وجودهم ونفوذهم العسكري والنووي والاقتصادي والتجاري وهم على أبواب صفقات تجارية دولية مع الصين والهند، فلا ننسى مثلاً الممر الهندي- الأوروبي الموعود وسواه.

مجرد أن قال الرئيس ترامب بإن أوروبا وجدت لأذية أميركا (باستخدامه عبارة بذيئة) خير دليل على مدى التغييرات الجيو سياسية والاستراتيجية المقبلة وعلى ضرورة استعداد الأوروبيين للإمساك بمصيرهم لوحدهم أمام تراجع الدعم الأميركي لهم وتراجع التزامات واشنطن تجاههم.

للصين طريق الحزام والحرير.. للأميركيين الممر الاقتصادي الهندي الخليجي الأردني المار بغزة باتجاه أوروبا… وللروس طريق الشمال أي ممر القطب الشمالي البالغ 15 ألف كيلومتر من الصين ولغاية أوروبا والذي أسهم التغيّر المُناخي في إزالة المياه المجمّدة… فالعالم بات محكوماً بالمصالح الاقتصادية والتجارية أكثر من كونه محكوماً بالقانون الدولي.. فهل يعني النظام العالمي الجديد توجهاً نحو الفوضى العالمية للسنوات المقبلة؟

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: