بعد مرور عام على سقوط نظام بشار الأسد، يجد لبنان نفسه أمام مرحلة سياسية غير مسبوقة، تتقاطع فيها التحولات الإقليمية مع حسابات الداخل المعقدة. فالعلاقة بين بيروت ودمشق، التي بقيت طوال عقود محكومة بميزان قوة مختل ووقائع فرضها النفوذ السوري، تدخل اليوم منعطفاً جديداً لم تتبلور معالمه النهائية بعد.
وبين إرث ثقيل من التدخل الأمني والسياسي السوري في لبنان، وواقع جيوسياسي يتغير بسرعة في المشرق، تقف الدولة اللبنانية أمام أسئلة كبرى، كيف ستعاد صياغة العلاقة مع سوريا الجديدة؟ وما مصير الملفات الشائكة التي رافقت البلدين منذ الحرب السورية، من الحدود والمعابر إلى اللاجئين، مروراً بدور القوى اللبنانية التي ارتبطت عضوياً بالنظام السابق؟
عام واحد فقط كان كافياً ليكشف حجم الفراغ الذي تركه انهيار النظام، وحجم الفرص والتحديات التي تفرضها دمشق ما بعد الأسد. في هذا المشهد المضطرب، تبدو العلاقات اللبنانية - السورية أمام اختبار إعادة التأسيس، بين من يدفع نحو قطيعة تاريخية ومن يطالب بتثبيت شراكة جديدة على أسس متكافئة وواضحة.
فرصة إعادة ضبط العلاقات
في هذا السياق، يشير استاذ العلاقات الدولية، الديبلوماسية والمفاوضات الاستراتيجية الدكتور محسن المكاري في حديث لموقع LebTalks إلى أن "بشكل عام يمكن وصف المَشهد بفرصة إعادة ضبط، ضبط ما كان قائماً ولكن مع شروط واقعية وقيود كبرى. سقوط حكم الأسد أزال عن لبنان عبءَ النفوذ المباشر للأسرة الحاكمة والذي استمر عقود، ولكنه واقع جديد من المنافسة الإقليمية والدولية على سوريا (دول خليجية، تركيا، قطر، الولايات المتحدة، وروسيا وإيران سابقاً)، وهذه الدول تلاحق مصالح اقتصادية وسياسية تَجعل دمشق اليوم محط "تفاوض لا تثبيت" وهو ما سيأتي حكما في وقت لاحق. وعلى مستوى العلاقات الثنائية، شهدنا تحرّكاً ديبلوماسياً غير مقنع لفتح خطوط اتصال رسمية، مناقشات حول مسائل قضائية وملفات حدودية، واتفاقيات أولية للتعاون الاقتصادي تُشير إلى رغبة في تطبيع تدريجي وإعادة وصل البنى التحتية والتجارة بين البلدين".
ويشدد المكاري على ان "هناك فعلاً حاجة لإعادة صياغة العلاقة، وللدولة اللبنانية حاجة ضرورية للمبادرة جدياً بوضوح وبرؤية لتغيير ما حدث سابقاً وللخروج من الوضع القائم، وهناك شبه حراك لكنه مشروط ومرتبط بما ينسج وما ينتج من تحالفات إقليمية جديدة ومع كل من لبنان وسوريا، ومن مكاسب سياسية لكل طرف، وبمخاوف لبنانية داخلية، أمنية، حدودية: مزارع شبعا والحدود البحرية، لاجئين، ومصالح اقتصادية".
العلاقة الجديدة: أقل سيطرة وأكثر براغماتية
ويقول المكاري: "نحن أمام صياغة علاقة جديدة بين سوريا ولبنان، لكن جديدة بمعنى أنها أقل سيطرة لطرف على الآخر مقارنة بمرحلة ما قبل 2011 أو حقبة النفوذ المباشر، هي علاقة يفترض ان تصبح اكثر توازناً مبنية على مفهوم العلاقات الدولية وهي علاقة أكثر براغماتية وممزوجة بمصالح اقتصادية وإقليمية: صيغة العلاقة يفترض انها ستشمل استعادة التمثيل الديبلوماسي، تفاهمات على إدارة الحدود (مزارع شبعا وترسيم الحدود البحرية الشمالية) والتهريب والنازحين، واتفاقات قضائية (قضايا اختفاء/اغتيالات قديمة). لكنها ليست "تحالفاً" موحّداً: كل طرف بيروت كما دمشق ستحاول المحافظة على هامش مناورة أمام قوى أخرى دولية او اقليمية (الدوحة، الرياض، أنقرة، واشنطن، ومصالح محلية داخل لبنان).".
التعاون الاقتصادي وإعادة الإعمار
ويتابع المكاري في حديث لموقعنا: "ما نشهده إشارات قوية نحو تعاون اقتصادي واسع النطاق بين لبنان وسوريا لكن مع حدود مهمة، بما يخص الطاقة فدمشق تفاوضت، او وقعت على صفقات طاقة وبنى تحتية كبرى مع جهات خليجية وتركية وشركات دولية بهدف إصلاح قطاع الكهرباء والغاز، وهناك تداول بمشاريع ضخمة على الطاولة "مليارات دولارات". هذا يجعل مجال الطاقة قابل للتكامل مع لبنان، لا سيّما عبر تبادل كهرباء/غاز أو مشاريع عبور أنابيب، لكنه يتطلب استقراراً سياسيا، أمنياً وضمانات استثمارية.
وعن إعادة الإعمار، بدأت دول ومنصات استثمارية توقيع عقود لإعادة تأهيل المطارات والموانئ والبنية التحتية في سوريا. هذا يفتح احتمال استفادة لبنانية عبر عقود، نقل بضائع، وخدمات لوجستية، لكن حصة لبنان ستعتمد على جهوزيته وقدرته التنافسية وشروط الدول المموِّلة (منح مقابل سياسات خارجية أو ترتيبات أمنية)".
ويشدد المكاري على أن "المسارات الاقتصادية ستبقى مرهونة بشفافية العقود، الضمانات الأمنية، ووجود بدائل إقليمية (مثلاً: مشاريع تمرير طاقة عبر تركيا أو الأردن أو عبر البحر). كما أن لبنان يعاني أزمة اقتصادية وجب تحسين بيئة الاستثمار داخلياً لتستفيد فعلياً من هذه الفرص".
الأثر الداخلي على لبنان
وعن أثر سقوط النظام على لبنان فتجلى، بحسب المكاري، بمحاور عدة، سياسياً، أعاد فتح سجالات داخل الطبقة السياسية اللبنانية حول كيفية التعامل مع دمشق (تحفّظات من قِوى داخلية تخشى نفوذٍ جديد، وحماس لدى آخرين كفرصة للتغيير ولالتقاط فرص اقتصادية مستقبلية). هذا يعيد تشكيل أولوية الملفات الداخلية (الطاقة، الحدود، عودة النازحين) بدل الحملات الإقليمية التقليدية فقط.
أمنياً واجتماعياً، إذ هناك سيناريو "حقيقي او مختلق" من مخاوف من تدفّق عسكري، مسلّحين عبر الحدود أو تغيّر في خرائط التهريب أدّى إلى ضغطٍ أمني وزيادة مطابقة للحدود، وهو ما يطال مناطق حدودية لبنانية.

اقتصادياً، فتح احتمال لخطوط تجارية جديدة وإسناد عقود إعادة إعمار في سورية قد يوفر فرصاً لتجار ومقاولين لبنانيين، لكن أيضاً يثير مخاوف من استيراد سلع مدعومة أو منافسة قد تُضعف بعض القطاعات المحلية".
يمكن القول إن لبنان يواجه مرحلة من الانتظار الحذر والمراجعة الداخلية أكثر منها لحظة انطلاق واضحة، فالملفات الثنائية لا تزال معقدة ومتشابكة بين السياسة والأمن والاقتصاد، وما يحدّد المسار ليس فقط الإرادة اللبنانية، بل أيضاً التقاطعات الإقليمية والدولية التي تفرض واقعاً متغيّراً على دمشق نفسها.
الفرص موجودة، خصوصاً على صعيد التعاون الاقتصادي وإعادة فتح قنوات التبادل التجاري والطاقة، لكنها مشروطة بوضوح الأطر القانونية والسياسية وباستقرار داخلي يمكّن لبنان من المنافسة والالتزام بشروط الشركاء. وفي هذا السياق، يبقى التحدي الأكبر قدرة لبنان على ضبط خياراته واستثمار الفرص من دون الانجرار خلف ضغوط خارجية أو تكرار أخطاء الماضي، ليكون دوره الفاعل في المنطقة مبنياً على حسابات متوازنة ومصلحة وطنية واضحة.