كتب شادي هيلانة في موقع LebTalks:
في لحظة دقيقة من تاريخ لبنان الحديث، بدأ مشهد سياسي جديد يتكوّن بهدوء لكن بإصرار، قوامه عودة الدولة إلى الواجهة عبر تحرك رسمي متكامل، يتوزع بين الخليج وأوروبا، لكنه ينطلق من منطق واحد: إعادة الاعتبار للدولة ومؤسساتها، وعلى رأسها الجيش اللبناني، بوصفه الضامن الأول للاستقرار، والحامي الوحيد لشرعية القرار.
في هذا السياق، جاءت زيارة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون إلى مملكة البحرين، مترافقة مع زيارة رئيس الحكومة نواف سلام إلى فرنسا، في تحرك مزدوج يعكس إرادة سياسية واضحة بتحريك المياه الراكدة في العلاقات الخارجية للبنان، والعودة إلى المسرح الإقليمي والدولي من بوابة الشرعية، لا الاستتباع.
زيارة البحرين لم تكن مجرد محطة بروتوكولية، بل كانت بمثابة اختبار مبكر لقدرة الرئاسة الجديدة على إعادة وصل ما انقطع مع دول الخليج، على قاعدة شراكة قائمة على السيادة والاحترام المتبادل. وقد حمل الرئيس جوزاف عون في هذه الزيارة إشارات واضحة إلى استعداد الدولة اللبنانية لتفعيل حضورها العربي، انطلاقًا من دورها التاريخي، ومن التزامها بالثوابت التي تضمن علاقات متوازنة، أبرزها أن يكون السلاح حصريًا بيد الدولة، وأن يُعاد الاعتبار للمؤسسات الشرعية كمصدر وحيد للقرار اللبناني.
وفي هذا الإطار، لا يمكن تجاهل الدور المحوري للمملكة العربية السعودية، التي تبقى، رغم كل التحديات، الركن الأساسي في استعادة التوازن العربي في لبنان. لطالما شكّلت الرياض مظلة دعم للبنان في المحافل السياسية والاقتصادية، ورافعة أساسية لمشاريع الإعمار والاستقرار، مشروطة دائمًا بوضوح الخيار اللبناني: دولة واحدة، قرار واحد، وسلاح واحد. فالسعودية لم تتخلَّ عن لبنان، بل بقيت تراقب وتنتظر لحظة نضج لبنانية صادقة، تعيد الاعتبار للدولة كحامل وحيد للمشروع الوطني.
أما زيارة رئيس الحكومة نواف سلام إلى باريس، فجاءت لتؤكد من جهتها أن لبنان لا يزال يحظى باهتمام فرنسي خاص، شرط أن تأتي المبادرات من منطق مؤسساتي مسؤول. الرسالة التي حملها سلام إلى العاصمة الفرنسية كانت واضحة: لا مجال بعد اليوم للتسويات الهشة أو للمناورات الداخلية التي تُستهلك على حساب ما تبقى من هيكل الدولة. المطلوب هو دعم حقيقي للمؤسسات، بدءًا من الجيش، الذي يشكل اليوم خط الدفاع الأخير عن لبنان، وليس فقط بمفهومه الأمني، بل السياسي أيضًا، بصفته الضامن لوحدة البلاد في وجه كل أشكال التفكك.
لكن الأهم من كل ذلك، أن هذا المسار الجديد لا يمكن أن ينجح ما لم يُفتح الباب أمام نهاية منطق السلاح غير الشرعي، وفي طليعته ذاك الذي يحتفظ به حزب الله وغيره خارج سلطة الدولة. لقد آن الأوان كي يُعلن بوضوح أن كل سلاح لا يخضع للمؤسسات الشرعية إلى الزوال، وأن لا حماية لأي مشروع وطني في ظل وجود قوى مسلحة تتجاوز الجيش وتتحدى الدستور. إن السلاح المتفلت، مهما كانت ذرائعه، لم يعُد مقبولًا في دولة تسعى إلى استعادة السيادة والشراكة، بل يُشكل العقبة الأولى أمام أي مشروع إصلاحي حقيقي.
ما يجمع الزيارتين ليس فقط توقيتهما المتقارب، بل الروحية التي حملتاها: تقديم لبنان الرسمي بوجهه المؤسساتي، لا الفئوي، والانطلاق في مسار جديد عنوانه إعادة بناء الدولة على قاعدة السيادة، وحصرية القرار، وتكامل السلطات. لم يعُد مقبولًا أن يُختزل لبنان بمجموعة من القوى المتنازعة التي تتقاسم النفوذ على أنقاض الدولة، فيما الشعب يدفع ثمن الانهيار.
في الخلفية، يبرز الجيش اللبناني كمرتكز لهذا المشروع السيادي. فقد أثبت قدرته على الإمساك بالأمن في أكثر المراحل خطورة، واحتضنه اللبنانيون كمؤسسة جامعة لا تنحاز إلا للدستور. واليوم، يتطلب هذا الدور التفافًا وطنيًا كاملاً، ودعمًا خارجيًا جديًا، شرط أن يأتي ضمن إطار منضبط، يكرس سلطة الدولة، لا يخلق توازنات موازية.
إن لبنان، وهو يخطو أولى خطواته نحو استعادة حضوره، بحاجة إلى غطاء سياسي يوازي الجهد الدبلوماسي. فما يجري ليس لحظة عابرة، بل فرصة حقيقية لتصويب البوصلة. والرسالة التي حملتها الزيارتان، من البحرين إلى باريس، واحدة: لبنان لا يُحكم إلا بالدولة، ولا يُحمى إلا بالجيش، ولا يُبنى إلا بالشراكة مع أصدقائه الحقيقيين، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، التي لم تكن يومًا بعيدة عن وجع اللبنانيين، لكنها تنتظر أن ترى فيهم مشروع دولة، لا ساحة مفتوحة للصراعات.
ربما تكون هذه هي البداية، ولكنها بداية واعدة.. شرط أن تُترجم هذه الحركة الرسمية إلى مسار مستمر، لا إلى مبادرات موسمية. فالعالم يراقب، والفرصة متاحة، ولكنها لا تنتظر طويلاً.