في القصر الرئاسي السوري حراكٌ غير عادي وغير طبيعي، ونكاد نقول خطير، أولى مؤشراته البيان الرئاسي الصادر رسمياً عن رئاسة الجمهورية السورية إعلان إصابة السيدة أسماء الأسد بمرض اللوكيميا اول “الإبيضاض النقوي الحاد” بحيث تقرّرَ خضوع زوجة بشار الأسد لبروتوكولٍ علاجي صحي خاص يتطلّب العزل والتباعد اﻻجتماعي، ما سيؤدي الى ابتعادها عن العمل المباشر والظهور العام والمشاركات الرسمية في الفعاليات والأنشطة خلال مراحل العلاج المقبلة.
- مؤشرات تراجع وأفول النظام السوري
بيان الرئاسة السورية بإعلان مرض السيدة الأولى في سوريا، والمعروف عنها إمساكها بمفاصل حكم زوجها وتحكّمها بالحياة العامة في مناطق النظام، في توقيت يتزامنُ مع عملية اغتيال رئيس إيران إبراهيم رئيسي في حادثة المروحية الغامضة، ناهيك عن غياب بشار الأسد نفسه عن مراسم تشييع الرئيس الإيراني وإرساله رئيس وزرائه، كلها مؤشراتٌ تطرحُ على بساط البحث الوضع الحقيقي للنظام ورأسه لا سيما بعد “الصفعة” التي تلقّاها الأسد في قمّة البحرين بحرمانه من الكلام وإملاءات الدول العربيّة عليه التي اتّسمت هذه المرة بالتشدّد والبعد عن الديبلوماسية وبنوعٍ من فرض للشروط التي لم يعد أمام الأسد سوى التقيّد بها لخلاص حكمه وخلاصه الشخصي، علامات إن دلّت على شيء فعلى بداية مرحلة أفول وتراجع، لا بل نهاية النظام .
- تداعيات غياب أسماء الأسد عن المشهد السياسي في سوريا
المعلوم أن الأسد كان يعدُّ مع زوجته لخلافة إبنه حافظ في الحكم، وكانت أسماء تسعى جاهدةً لتحقيق تلك الخلافة خصوصاً وأن بشار الأسد يعاني بدروه من مرض السرطان منذ سنوات وهو يخضع للعلاج فضلاً عن مرض عصبي، ما يجعل بقاءه في السلطة على المدى المتوسط والبعيد أمراً مشكوكاً فيه.
أسماء الأسد اذاً ستغيب عن المشهد السياسي في سوريا، والإعلان الرئاسي يُعتبر بمثابة إعلان ابتعادها عن المشهد السياسي، بما يعنيه رسالة تمَّ إرسالها وإيصالها الى جميع المعنيّين بالشأن السوري إقليمياً.
- مؤشرات إنتهاء حلم بشار الأسد بالتوريث السياسي
غياب أسماء الأسد عن المشهد السوري يشي بتحوّلٍ ما في هذا المشهد قد يكون أبرز تجلّياته انتهاء حلم التوريث لأبناء الأسد أو لعائلة الأخرس، أما أهمية وخطورة هذا التطور فتكمنان بأنه لا يقتصر فقط على الآثار الداخلية والعائلية لعائلتي الأسد والأخرس، بل يتعدّى بتأثيراته إلى الوضع السوري برمّته لأن اختفاء أسماء اﻻسد يٌفقدُ زوجها وحكمه دعامةً أساسيةً لاستمرار قوة حكمه ونظامه داخلياً، وما إعلان مرض السيدة السورية الأولى في هذا التوقيت إثر أحداث إيران الدراماتيكية إلا من باب إيصال رسائل سورية للقيادة الإيرانية بتبدّلٍ ما بدأ يطرأ على السياسة الرسمية للنظام إزاء القيادة الإيرانية الجديدة، وكأن الأسد يُبلغ الإيرانيين عدم قدرته بعد اليوم على التجاوب مع طلبات القيادة الإيرانية بعد إصابة نظامه ب”نكسة صحية” تجعله غير قادرٍ على الإيفاء بما يمكن أن يُطلب منه بعد اليوم، إذ إن أسماء الأسد كانت تغطّي حراك زوجها وسياساته إعلامياً ومجتمعياً وسياسياً لتجميله في نظر الغير ما جعلها متورّطة مع قباحات النظام .
- أجنحةٌ وصراعٌ سياسي محتدم داخل إيران
بشار الأسد يصبح شيئاً فشيئاً وحيداً… في ظل غياب زوجته وتأثيرها المباشر والفاعل، في وقتٍ تخسر طهران رئيساً محبوباً من المرشد الأعلى قاد معركةً لإيصاله الى سدّة رئاسة إيران، الأمر الذي لم يعد متيسّراً حالياً مع تنامي الأجنحة والتيارات السياسية داخل إيران الساعية الى خلافة المرشد الأعلى ومنافسة مجتبى خامنئي في الخلافة بين تيار مناهضة الحرس الثوري والعسكرة وتيار يريد كفّ تدخّلات إيران في شؤون المنطقة واﻻهتمام بالداخل الإيراني، ما يشي بمغادرة الصقور السلطة في طهران في ظلّ صراع سياسي محتدم.
- هل من صفقة لإخراج بشار وأسماء الأسد من الحكم؟
في سوريا، نهاية حقبة آل الأسد تجري على قدمٍ وساق ما لم يطرأ ما يودي بسوريا الى التقسيم بين منطقتين: منطقة شمال شرق الفرات المحرَّرة ومنطقة النظام المحاصرة إقتصادياً وسياسياً وعربياً ودولياً باستثناء روسيا، من هنا فإن إعلان الرئاسة السورية عن مرض أسماء الأسد وابتعادها عن المشهد السوري يحمل أبعاداً تتجاوز مجرد إعلان مرض، لاسيما أن صفقةً ما يمكن أن تكون قد تمّت لإخراجها من الحكم الى جانب زوجها وعزلها عن إدارة البلاد إقتصادياً ومالياً لأن زوجها ليس في وارد هذه اﻻهتمامات لا هو ولا شقيقه ماهر الأسد، فلطالما عهدَ الى آل مخلوف في البداية بتولّي هذه المحفظة الثمينة، ومن ثم الى أسماء الأسد ومحيطها المباشر .
مدة علاج السيدة أسماء تتراوح طبياً بين ٣ و٥ سنوات، ما يعني اختفاء أي دور لها لسنوات وهي فترة كافية لتمرير صيغ حلول وتسويات في سوريا أو تكريس التقسيم واللامركزية الموسّعة أو الفدرالية المقنّعة في سوريا اذا ما استمرت المواجهة الدولية والإقليمية على حالها.
- مشاريع ثلاثة في المنطقة تعمل لمصالحها الخاصة
للتوسّع في التحليل المستنِد الى معلومات، دعونا نذكر بأن منطقة الشرق الأوسط لطالما كانت محكومة تاريخياً بإمبراطوريات مهيمِنة وصولاً الى حكم الشاه لإيران ودور الأخيرة كشرطية الشرق خلال أيامه، حتى أنه وصل الى حدّ تشكيل خطرٍ على القوى العظمى الغربية التي قرّرت الإطاحة به فاسحةً المجال أمام إسرائيل كي تسيطر بدورها على المنطقة وتهيمن على سياساتها .
وبسقوط الشاه والمجيء بنظام الملالي مع آية الله الخميني، إنتهى دور إيران الإمبرطوري البهلوي ليحل مكانه النظام الديني المتشدّد، وقد شهدت المنطقة صراعاً بين ثلاثة مشاريع كان العرب ضائعين تائهين بينها: المشروع الإسرائيلي المدعوم غربياً وأميركياً، والمشروع التركي الإسلاموي مع الرئيس رجب طيب اردوغان، والمشروع الإيراني الديني المذهبي المتطرّف في الوقت الذي أُعلنت إيران جمهورية إسلامية شيعية لاستقطاب الشيعة في المنطقة والعالم.
هذه المشاريع الثلاثة تواجدت في هذه المنطقة وعملت ولا تزال على تحقيق مصالحها على حساب المنطقة وشعوبها العربية والإسلامية، فالمشروع التركي العثماني امتدت علاقاته الى آذربيجان، وأرمينيا والأناضول وروسيا والناتو والوﻻيات المتحدة اﻻميركية، فدعم الحركات الإسلاموية في ليبيا ومصر وتونس فسوريا، لكن هذا المشروع فشلَ وقد سبق أن شرحنا في مقال سبب الفشل وانعطافة السياسة التركية باتجاه “تصفير” المشاكل وآخرها اﻻنسحاب من الشمال السوري وإنهاء التنظيمات المسلّحة التي إرتدت عباءة الثورة السورية “فأسلمَتها ومذهبتها”. وقد إنتهى دورها كلها الآن، وباتت تركيا تعمل على تصفيتهم لتسليم الشمال السوري الى الدولة السورية.
- المشروع الفارسي وتحرير فلسطين
المشروع الفارسي الإيراني الذي انطلق من الحرب الإيرانية – العراقية نجحَ في لحظة ما وتحت مسمّى “تحرير فلسطين” في استقطاب العراق وسوريا ولبنان، ويحاول الآن من تهديد الأردن بإسم تحرير فلسطين وتقوية الإخوان المسلمين في غزّة تحت إسم “تحرير فلسطين” وصولاً الى اليمن الذي استقطبت قسماً منه إيران تحت شعار تحرير فلسطين أيضاً.
- السعودية والقوة الإقليمية الثالثة
المشروع الإسرائيلي يهدفُ الى إقامة سلامٍ دائم بين العرب وإسرائيل من خلال اﻻعتراف بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم، لكن العائق كان “حماس” وجماعة إيران في لبنان، فضلاً عن تركيبة حكومة إسرائيلية يمينية متطرّفة ذهبت في إجرامها الى أقصى الحدود، لكن بين هذا وذاك برزت قوةٌ ثالثة إقليمية تمثّلت بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، وقد تحوّلت تلك الدول من اﻻستهلاك الى التصنيع وصناعة القرارات الاستراتيجية الإقليمية والدولية كالطاقة والغاز والإعلام.. فالسعودية حاولت امتصاص الخطر الإيراني بوساطة صينية إلا أن الإيرانيين خذلوا السعوديين في تعهّداتهم من خلال التنكّر لأي دور أو تأثير لإيران مع الميليشيات في الدول العربية المحتلة، متحجّجةً بقضية فلسطين ومناصرة القضية.
- كيف وقعت إيران في الشرك الإسرائيلي؟
إسرائيل خلال الفترة الماضية إنتهجت سياسة تطبيع مع الشعوب من خلال انتقالٍ تدريجي في الرأي العام العربي من اعتبار إسرائيل عدوة الى اعتبار إيران العدو الأول، ففي سوريا المواطن السوري يقول إن عدوه هو إيران، وفي لبنان كما في العراق نسمع نفس الردّ بحيث تكاد إسرائيل لا تٌذكَر سوى من قبل قلّة قليلة من العرب، بحيث انفضحَ المشروع الإيراني وسقطت شعاراته وبخاصة مع انطلاق “طوفان اﻻقصى” فتهيأ الرأي العام العربي لتقبّل إسرائيل ومعاداة إيران، وبالتالي وقعت الأخيرة ومعها المشروع الإيراني في الشرك الإسرائيلي وباتت مهدَّدة بالزوال بدعمٍ عربيٍ خليجيٍ مبطّنٍ للتخلّص من أذرع إيران في المنطقة.
- سقوط فرصة عودة الصقور
بالتوازي، أسقطَ مقتل الرئيس الإيراني فرصة عودة الصقور الى السلطة في إيران، ما يُبشّر بسقوط المشروع الإيراني ثم عودة الإصلاحيين الى السلطة التي باتت أقرب منالاً من أي يومٍ مضى، ما يعني تحوّل إيران وأدوارها شيئاً فشيئاً بين الأمس واليوم، من هنا، فإن المشروع الجديد للشرق الأوسط سيكون مشروع تحالف عربي – إسرائيلي ونقولها بكل صراحة، إذ إن فشل المشاريع الثلاثة أعلاه مهّدَ الطريق أمام نجاح المشروع العربي- الإسرائيلي، وعلى هذا المشروع يُعمل اليوم في كواليس القرار الإقليمي والدولي لتكريسه ولو بعد حين .. مع شيء من حلّ الدولتين.