ليس جديداً على خطاب حزب الله أن يضع اللبنانيين أمام خيارين لا ثالث لهما، الخضوع أو الحرب. لكن كلام أمينه العام نعيم قاسم بلغ مستوى غير مسبوق من الوضوح الفجّ، حين أعلن عن أن سلاح المقاومة لن ينزع "ولو اجتمعت الدنيا بحربها على لبنان"، وكأن لبنان ملكية خاصة لمشروع واحد، لا دولة، ولا شعب، ولا دستور.
هذا الكلام لا يعبّر عن ثقة، بل عن خوف من أي نقاش حقيقي. فالسلاح الذي لا يناقش هو سلاح خارج منطق الدولة، وخارج منطق الشراكة الوطنية. ومن يقول إن مجرد البحث في حصرية السلاح يعني "إعدام الوجود"، يعترف ضمناً بأن هذا السلاح لم يعد وسيلة دفاع، بل شرط بقاء سياسي، حتى ولو كان الثمن شل الدولة وتفجير المجتمع من الداخل.
الأخطر في خطاب قاسم هو تحويل الدولة إلى شاهد زور. فهي، بحسب كلامه، مسؤولة عن السيادة وحماية الأرض، لكنها مطالبة في الوقت نفسه بالتوقف عند حدود مرسومة لها سلفاً، وعدم الاقتراب من "المحرّم". أي دولة هذه التي يطلب منها أن تحمي، من دون أن تملك القرار؟ وأي سيادة هذه التي يسمح لها أن تُرفع في الخطب، لا أن تمارس على الأرض؟
التهديد بالحرب، والتأكيد أنها "لن تحقق أهدافها"، ليس موقفاً ردعياً، بل استخفاف بحياة اللبنانيين. فالحروب لا تقاس بالخطب، بل بعدد الضحايا، وبحجم الدمار، وبالسنوات التي يحتاجها البلد لينهض من تحت الركام.
أما الحديث عن أن حصرية السلاح مطلب "أميركي ـ إسرائيلي"، فهو استخفاف بعقول اللبنانيين. هذا مطلب لبناني أولاً، دستوري، بديهي، ومن صلب أي دولة طبيعية. لا تقوم دولة بسلاحين، ولا بسيادتين، ولا بقرارين. وكل تجربة المنطقة تؤكد ان الدويلات المسلحة لا تحمي الأوطان، بل تستنزفها، وتدفع شعوبها إلى العزلة والانهيار.
أما المقارنة بسوريا، فهي مفارقة صارخة، من يتهم الآخرين بالاستسلام، يدافع عملياً عن نموذج أوصل سوريا إلى الخراب، ولبنان إلى الحافة. التخويف من "زوال لبنان" إذا نوقش السلاح، هو بحد ذاته تهديد مباشر لبقاء لبنان، لأن البلد لا يمحى بنقاش الاستراتيجية الدفاعية، بل يمحى عندما يلغى دوره كدولة.
لبنان لا يحتاج إلى خطابات تتوعد العالم، بل إلى مشروع وطني يعيد الاعتبار للدولة، للجيش، وللمؤسسات.
لا يحتاج إلى "خلطة الأرض والسلاح والروح"، بل إلى سيادة تحمي الأرض بالشرعية، لا بالوصاية، وتصون الأرواح من الحروب العبثية، لا من النقاش.
فخطاب قاسم ليس دفاعاً عن لبنان، بل إعلان صريح عن رفض الدولة. هو خطاب يقول للبنانيين بوضوح، إما أن تقبلوا بما هو مفروض عليكم، وإما تتهمون بالخيانة والاستسلام.
لبنان ينقذ بدولة، ومن يرفض الدولة، مهما علت شعاراته، يتحمل مسؤولية إبقاء البلد رهينة الخوف والانهيار.