يبدو أن سلاح حزب الله، الذي رفع يوماً بوجه الإسرائيلي، بات اليوم يجد في الداخل اللبناني ميداناً أسهل لتجريب قوّته واستعراضها. فبينما يحصن الإسرائيلي حدوده الشمالية ويعيش في طمأنينة غير مسبوقة، تتساقط مخازن "الحزب" داخل الأراضي اللبنانية، وتقصف مستودعاته من دون أن نسمع سوى بيانات الاستنكار المعتادة. السلاح الذي وصف يوماً بأنّه "درع الأمة"، أصبح اليوم يستخدم للتهويل على الناس ولترهيب من تبقّى في هذا البلد المنهك.
الإسرائيلي مطمئن، حدوده آمنة، تلقى رسالة تطمين غير مباشرة من نعيم قاسم الذي قالها صراحة: "لا قلق على المستوطنات الشمالية". وكأن "الحزب" الذي اعتاد أن يقدّم نفسه كـ"خطر استراتيجي على إسرائيل"، قرر أن يصبح الضمانة الأمنية لها. أما سكان هذا الوطن، فأصبحنا في مرمى السلاح نفسه، بين غارات الإسرائيلي من السماء وتهديدات "المقاومة" من الأرض.
الشيخ نعيم لم يكتفِ بخطاب تعبوي، بل أعلن انقلاباً سياسياً واضحاً، رفض أن يفاوض لبنان الرسمي إسرائيل بشكل غير مباشر، لأنه يريد أن يكون هو المفاوض، هو المقرر، هو الدولة. لا يثق بالمؤسسات التي يشارك في حكمها، لكنه يثق بقدرته على محاورة من يصفه بـ"العدو".
والأسوأ من ذلك، أنه يؤكد أن سلاح "الحزب" لن يستخدم لتهديد إسرائيل بعد الآن، لكنه في الوقت نفسه لا ينوي التخلّي عنه. أي أنّ السلاح "موجود" ولكن بلا وظيفة، "مقدّس" ولكن بلا قضية. فإذا لم يكن هذا السلاح لحماية لبنان، ولا لتحرير فلسطين، ولا لردع العدو، ففيمَ الجدوى من بقائه؟ أهو سلاح لحماية النفوذ؟ لترهيب خصوم الداخل؟ أم لمجرد التذكير بأن القرار في هذا البلد لا يزال في يد من يحمل السلاح لا من يحمل الشرعية؟
الخطاب الأخير للشيخ قاسم لم يكن دعوة إلى التهدئة كما حاول البعض تصويره، بل كان إعلاناً عن حرب من نوعٍ آخر، حرب على الدولة، على المؤسسات، وعلى اللبنانيين جميعاً. فتهديد الحكومة بأن قراراتها ستبقى حبراً على ورق، وتحميلها مسؤولية الدمار والإعمار، مقابل إبداء "حسن نية" تجاه سكان المستوطنات الإسرائيلية، لا يعبّر عن روح مقاومة بل عن روح سلطة تريد السيطرة لا التحرير.
اليوم، "الحزب" شريك في الحكم حين تخدمه المشاركة، ومعارض حين يحتاج إلى المزايدة، ينام في دفء السلطة، ويستيقظ في خطاب الثورة، يقاتل بـ"الميكروفون" أكثر مما يقاتل بالسلاح، ويعبّئ جمهوره بالشعارات أكثر مما يحميه بالأفعال.
وهكذا تحوّل سلاح "المقاومة" من مشروع تحرير إلى أداة ترويض، من سلاح موجّه إلى الخارج، إلى سلاح مسلّط على الداخل، من مشروع وطني إلى سلطة تحكم بالخوف وتعيش على الفوضى.
أما إسرائيل، فقد أصبحت مطمئنة أكثر من أي وقت مضى، لأن من كان يفترض أن يقاتلها، أصبح منشغلاً بمقاتلة الداخل.