تعزز العوامل المتزامنة المستويات القياسية للذهب، لا سيما في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية حول العالم، وسط حالة “عدم اليقين” التي تلف الاقتصاد العالمي، ما يدعم الاتجاه نحو المعدن النفيس كملاذ آمن تقليدي في مواجهة تقلبات الأسواق والسيناريوهات الوخيمة التي تفرض نفسها على المشهد العالمي.
وغالبا ما يرتفع سعر الذهب في أوقات عدم اليقين حيث يُنظر إليه على أنه أفضل وقت للاستثمار الآمن.
ارتفاع غير مسبوق لأسعار الذهب
وصل السعر الفوري للذهب إلى مستوى قياسي قارب 2294.99 دولارا فيما جرت تسوية العقود الأمريكية الآجلة للذهب مرتفعة 1.5% عند 2315 دولارا. أما بالنسبة للمعادن النفيسة الأخرى، ارتفعت الفضة في المعاملات الفورية 0.2% إلى 28.28 دولار للأوقية وهي في طريقها لتحقيق مكاسب أسبوعية. و صعد البلاتين 0.6% إلى 938.39 دولار فيما استقر البلاديوم عند 1023.09 دولار. والمعدنان في طريقهما لتكبد خسائر أسبوعية.
ووفق توقعات الخبراء، تتجه أسعار الذهب إلى تسجيل ارتفاع للأسبوع الرابع على التوالي وذلك على الرغم من التذبذب الذي سيطر على تحركات الذهب منذ بداية الأسبوع، علماً أن المعدن النفيس قد ارتفع منذ بداية شهر نيسان بنسبة 6.7% ليتبع ارتفاع آخر خلال شهر أذار بنسبة 9.2%.
الرد الإيراني
ارتفعت أسعار الذهب بسبب العزوف عن المخاطرة في الأسواق المالية في أعقاب تقارير إعلامية عن تفجيرات في إسرائيل وإيران ردًا على الضربات الإيرانية بداية هذا الأسبوع بالإضافة إلى الرد على عملية قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، مما أثار المخاوف من صراع إقليمي أوسع نطاقا وزاد جاذبية الذهب كملاذ آمن. ولكن سرعان ما عاد سعر الذهب إلى تقليص هذه المكاسب بسبب محدودية تأثير هذه الهجمات.
وتراجع الذهب سريعاً ليفقد مكاسبه بعدما أظهرت الأخبار أن الهجوم كان محدود ولم يؤد إلى وقوع خسائر في الجانب الإيراني الذي بدا من تصريحاته عقب الهجوم أنه لا ينوي الرد بدوره، وبالتالي عادت أسعار الذهب سريعا إلى التراجع.
الجدير بالذكر أن انتهاء التوترات الجيوسياسية قد يدفع الأسواق إلى التركيز مع توقعات السياسة النقدية الأمريكية، وهو ما قد يدفع الذهب إلى التراجع بسبب التوقعات باستمرار أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول من الوقت، ولكن في الوقت نفسه يجد الذهب الدعم من عمليات شراء البنوك المركزية وعلى رأسها البنك المركزي الصيني للذهب لزيادة احتياطاتها من المعدن النفيس.
البنوك المركزية
اندفعت البنوك المركزية خلال العامين الماضيين على تعزيز حيازتها من الملاذ الآمن لعوامل مختلفة، وبشكل خاص الاقتصادات الناشئة والبلدان التي تواجه عملتها تحديات واسعة، وفي خطٍ متوازٍ أيضاً مع مساعي الانفكاك عن هيمنة الدولار الأميركي كعملة احتياطية بالنسبة لعدد من الدول التي تتطلع إلى رسم خيوط وملامح نظام دولي جديد قائم على التعددية القطبية.
فارتفع الذهب، وهو أداة تحوط ضد التضخم وملاذ آمن خلال أوقات عدم اليقين السياسي والاقتصادي، أكثر من 11% منذ بداية العام الجاري، بدعم من مشتريات قوية من البنوك المركزية والطلب على الملاذ الآمن.
وبحسب بيانات مجلس الذهب العالمي، فإن مشتريات ثاني أكبر اقتصاد في العالم من الذهب في العام الماضي 2023 بلغت 225 طناً، وذلك من إجمالي 1037 طناً مشتريات البنوك المركزية خلال العام.
حيث تصدرت الصين (البلد المتصدر لمشتريات الذهب العام الماضي) وجاء خلفها كل من بولندا وسنغافورة وليبيا والتشيك والهند والعراق وقطر والفلبين، على التوالي. وتصدرت ليبيا قائمة مشتريات البنوك المركزية العربية من الذهب في 2023، بإجمالي نحو 30 طناً، من أصل 54.8 طن للبنوك المركزية العربية، ومن بعد ليبيا -على المستوى العربي- جاء المركزي العراقي بمشتريات بلغت 12.3 طن.
ويتوقع مجلس الذهب العالمي أن تستمر مشتريات البنوك المركزية، بقيادة الصين لعدة سنوات، مما يؤكد الالتزام بالتنويع، وذلك قد يدفع أسعار الذهب لمزيد من الارتفاعات جراء عمليات الشراءات المتتالية من البنوك في محاولة للحماية من حالة عدم اليقين الجيوسياسية والاقتصادية، كما أن قيمة الذهب المستمدة من ندرته وفائدته في مختلف الصناعات تؤكد جاذبيته.
فيما أعلن البنك المركزي الصيني عن استمرار شراء الذهب للشهر السابع عشر على التوالي في أذار، مضيفًا 5 أطنان إلى إجمالي حيازاته من الذهب، والتي تبلغ الآن 2262 طن أو 4.6% من إجمالي الاحتياطيات، بينما ارتفاع احتياطيات الصين من الذهب بمقدار 27 طن خلال الربع الأول. علماً أن مشتريات الصين من المعدن النفيس العام الماضي كانت عند 225 طنًا؛ أي ما يقارب من ربع الـ 1037 طنًا التي اشترتها جميع البنوك المركزية في العالم.
وطبقاً للبيانات، فقد نما إجمالي السبائك لدى بنك الشعب الصيني إلى 72.74 مليون أونصة بنهاية شهر أذارالماضي، بزيادة بنحو 0.2%، وبما يعد أقل زيادة في سلسلة عمليات الشراء الشهرية التي بدأت في تشرين الثاني 2022.
وأسهمت عدة أسباب في جاذبية المعدن النفيس، من ضمنها التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، إلى جانب ارتفاع معدلات التضخم في مرحلة ما بعد “كوفيد”. إذ كانت بكين حريصة على تنويع احتياطياتها من النقد الأجنبي لتقليل الاعتماد عليه. وانخفضت حيازات الصين من الدولار بشكل كبير منذ العام 2011، وهو الاتجاه الذي تسارع في مرحلة ما بعد الوباء.
أحد الأسباب المحتملة لحيازات الصين للذهب هو زيادة حالة عدم اليقين الاقتصادي والمالي والتوترات الجيوسياسية، كما أن حيازات روسيا ارتفعت في محاولة لتجنب الآثار السلبية للعقوبات على الاقتصاد. في هذا السياق، تخشى الصين من إمكانية اتخاذ إجراءات مماثلة ضدها بسبب طموحاتها العسكرية والتوترات التجارية المستمرة مع الولايات المتحدة، وكانت هذه التخوفات سبباً في دفع بكين إلى تنويع احتياطياتها، حيث يلعب الذهب دوراً رئيسياً في هذه الاستراتيجية.
توقعات
توقع المصرف الألماني الشهير “دويتشه بنك (ETR:DBKGn)” أن يصل سعر الذهب إلى 2400 دولاراً للأونصة بنهاية عام 2024، وإلى مستوى 2600 دولار بنهاية عام 2025. أرجع البنك العالمي هذا الصعود القادم في أسعار الذهب إلى ارتفاع تدفقات الاستثمار، بجانب تصاعد التوترات الجيوسياسية، خاصة في الشرق الأوسط، وأيضًا عمليات الشراء الكبيرة من جانب البنوك المركزية.
وفي الوقت نفسه، توقع محللون في وحدة الأبحاث لدى بنك (أي إن زي – ANZ)، أن تتفوق الفضة على الذهب مع ارتفاع تدفقات الاستثمار وسط ارتفاع أسعار الذهب بشكل قياسي. وتوقع المحللون أيضًا أن يتم تداول الذهب بالقرب من 2500 دولار للأونصة وأن تتحرك الفضة فوق 31 دولارًا للأونصة بحلول نهاية عام 2024.
من ناحية أخرى، رفع بنك الاستثمار الأمريكي جولدمان ساكس (NYSE:GS) توقعاته لأسعار الذهب في نهاية العام الجاري، خاصةً بعدما تصاعدت التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط من 2300 دولار إلى 2700 دولار للأوقية بنهاية عام 2024، وأوضح البنك الأمريكي أن ارتفاع أسعار الذهب الأخيرة لا علاقة له بعوامل الاقتصاد الكلي المعتادة والمرتبطة بمعدن الذهب.
وأضاف بنك الاستثمار الأمريكي أن الطلب المستمر من البنوك المركزية بما في ذلك بنك الصين الشعبي، يزيد من ارتفاع أسعار الذهب العالمية، مشيرا إلى أنه من المتوقع أن يرتفع الطلب على الذهب كملاذ آمن اعتمادا على التخفيضات التي قد تحدث في أسعار الفائدة الفيدرالية، بالإضافة إلى نتائج الانتخابات الأمريكية.
أما بنك الاستثمار العالمي والخدمات المالية “سيتي غروب” يتوقع ارتفاع أسعار الذهب إلى 3 آلاف دولار للأونصة.
وفي الخلاصة فإن أسباب ارتفاع الطلب على الذهب هي كالآتي:
• يعتبر الذهب منذ آلاف السنين ملاذاً آمناً للمستثمرين.
• والذهب “احتياط نقدي” لدى المصارف المركزية في الدول النامية بشكل خاص، لدى صندوق النقد الدولي ولدى عدّة دول ومنظمات ومؤسسات دولية.
• التوترات الجيوسياسية في نقاط مختلفة من العالم.
• الطلب على الذهب لدعم العملة المحلية وليس للاستثمار في عديد من الدول، وفي حال انخفاض العملة يمكن التصرف في الذهب.
• “العدائية” تجاه الدولار من بعض الدول الناشئة بعد الحرب في أوكرانيا، واستخدام الدولار كسلاح اقتصادي (بالإشارة إلى العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا).
• شكلت بعض الدول “سلة عملات” من “اليورو والين” مقابل الاحتفاظ بالدولار كعملة احتياط، فأصبح الذهب منافساً للدولار.
• الصين وروسيا بشكل خاص تسعيان إلى التخلص من هيمنة الدولار واليورو، والاعتماد على عملتيهما المحلية في التبادل التجاري، لا سيما بعد العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية على موسكو.
• بعض الدول تلجأ لمشتريات الذهب لتجنب فرض أي عقوبات مستقبلية عليها من قبل الولايات المتحدة.
• دول الاقتصادات الناشئة مثل “مصر وتركيا” على سبيل المثال، تلجأ لمشتريات الذهب لحماية العملة وتنويع استثماراتهم وتحويل الذهب لأية عملة في حال حدوث أزمات.. ولا يعني هذا التخلي عند الدولار.
• التوقعات بانخفاض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، بما يؤثر على سعر الدولار مقابل العملات الأخرى علمًا أن هناك علاقة عكسية بين سعر الفائدة والذهب.
• التحول نحو الذهب يتماشى مع أهداف دول البريكس، التي تفكر في عملة مشتركة لتحدي سيادة الدولار بحلول العام 2050.
لكن ما تقدم لا يسقط احتمال تراجع سعر الذهب في الفترة المقبلة، واذا حصل، فسيكون “انخفاضًا تصحيحيًا” وليس هبوطًاً بالمعني الحرفي.