Search
Close this search box.

ما بعد بعد الشرق الأوسط ونذير المواجهة الدولية

us

مَن يشاهدُ ويتابعُ الاحتشاد العسكري والديبلوماسي الدولي الضخم من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأطلسيين في المنطقة، سواء في البحر الأبيض المتوسط أو البحر الأحمر أو بحر الخليج العربي، لا بدّ من أن يطرحَ على نفسه الأسئلة البديهية الآتية: هل إن كل هذه الحشود، معطوفٌ عليها الاستنفار الديبلوماسي الأميركي والدولي سببها حرب غزّة أو ردع إيران في ردّها الانتقامي على إسرائيل؟

وهل إن إسرائيل التي تملكُ التكنولوجيا العسكرية الأحدث والأقوى في المنطقة، والتي تملك أقوى أجهزة الاستخبارات في المنطقة وربما العالم بعد الاستخبارات الأميركية والبريطانية، والتي تستطيع من خلالها قتل واغتيال وتفجير أهداف معادية لها في عمق أعماق الدول المعادية أو المهدِّدة لها، والتي تملكُ من القوة العسكرية والتسليح العسكري الأقوى والأكثر تطوراً في المنطقة جوّاً وبحراً وبرّاً، فضلاً عن السلاح النووي والكيماوي، ما يمكّنها لوحدها من مواجهة أي اعتداء عليها، إسرائيل هذه هل هي فعلاً بحاجة الى كل هذا الدعم الأميركي والغربي العسكري والأساطيل وسلاح الطيران المتطوّر والأكثر فتكاً ؟

وهل إيران التي تملكُ ما تملكه من ترسانة أسلحة أقل قوةً ونوعيةً من السلاح والتكنولوجيا الأميركيَين والغربيَين، ومن ميليشيات منتشرة في دول المنطقة بحاجة لكل تلك القوى الكونية لردعها؟ وهل هي بحاجة لكل هذا التضخيم لقوتها وحجمها من خلال تصويرها بالخطر العظيم المهدِّد لأمن إسرائيل وسلامته؟!

نهج ” المعيارين” وسياسة العصى والجزرة

في الحقيقة، ثمة لغزٌ يكمنُ في كل هذه التساؤلات سنحاولُ تبيانه في هذا المقال تِبعاً لمعطياتٍ متقاطعةٍ، ولمراقبة شاملة لأحداث المناطق القريبة من الشرق الأوسط كي نحاول استنباط ما يمكن من عوامل تُبنى عليها المشهدية الحالية.

نبدأ من واشنطن التي لطالما عوّدتنا في علاقتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية على نهج “المعيارين” أي سياسة “العصى والجزرة” أو سياسة العقوبات والحصار والتفاوض والصفقات، حتى في أحلك أزمنة الصراع طوال سنوات وسنوات، ومن الأمثلة على ذلك الاتفاق النووي عام 2015 وتحرير قسم من أموال إيران منذ فترة موجودة في كوريا الجنوبية، والسماح  ب”ليونة” أميركية لإيران لبيع نفطها الى روسيا والصين والهند التي هي في نفس الوقت شريكة وحليفة للولايات المتحدة الأميركية، وبتسيير ناقلات نفط إيراني الى فنزويلا على مرأى ومسمع من الاستخبارات الأميركية والدولية الغربية، وسواها من شواهد لا مجال لذكرها كلها في هذا المقال، فماذا لو كان هذا النهج الأميركي خصوصاً مع الإدارة الديمقراطية الحالية التي هي نسخة منقّحة عن إدارة الرئيس باراك أوباما، وفريقه السياسي ما يزال حتى هذه الساعة ” معتمَد ” ولكن في كواليس المنطقة؟

الاتصال والتواصل قائمان بين الأميركيين والإيرانيين!!

إدارة الرئيس جو بايدن أرسلت منذ أيام وفداً من الاستخبارات الأميركية الى إيران للاجتماع بقادة الحرس الثوري ومفاوضتهم لعدم ضرب إسرائيل والتخلّي عن فكرة الانتقام، في مقابل العودة الى الاتفاق النووي وإلغاء القسم الأكبر من العقوبات على طهران ومساعدة النظام فيها على معالجة الثغرات الأمنية لديه في منظومة الأمن الداخلي الإيراني، لضمان قطع إمكانية أي خرقٍ إسرائيلي استخباراتي للداخل الإيراني، توصّلاً لعدم تكرار حوادث اغتيال أو تفجير داخل إيران كمثل حادثة اغتيال إسماعيل هنية مؤخراً، فهل حصلَ هذا اللقاء فعلاً؟ الجواب نعم، لقد حصل والتواصل قائم بين الطرفين على تلك الخلفيات التفاوضية، لكن الغاية لم تكن محصورة بإسرائيل ومسألة الردّ الانتقامي ضدها بقدر ما تعدّتها الى ما هو أعمق وأشمل وأخطر .

 وإذا نظرنا الى أحداث المناطق المحيطة بالشرق الأوسط في الأيام القليلة الماضية، نلحظُ حدوث أمرين بالتزامن، لهما من التأثير الجيو سياسي والاستراتيجي على مجمل “طاولة الشطرنج” الإقليمية ما هو أبعد من غزّة والرد الانتقامي الإيراني وإسرائيل وجنوب لبنان …

الحدث الأول هو دخول أوكرانيا الى العمق الروسي في تطوّرٍ دراماتيكي خطير جداً قَلَبَ المعادلات القائمة منذ قرّرَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شنّ حربه على أوكرانيا في العام 2022، وهذا التغلغل الأوكراني الهادف استراتيجياً الى نقل ساحة المواجهة من العمق الأوكراني الى العمق الروسي لم يكن ليتمّ وينجح لولا الدعم الأميركي الغربي، في لحظة بدا فيها للكرملين أنه قد حقّقَ إنجازاته في شرق أوكرانيا، وباتَ يرسّخُ مكاسبه هناك.

أما الحدث الثاني المتزامن مع الحدث الأول فهو الانقلاب العسكري في بنغلادش جارة باكستان والهند … والقريبة جيو سياسياً من الصين.

طاولة المفاوضات ومعادلة أرض مقابل أرض

مَن يتعمّقُ في هذين الحدثين، ويضيفُ اليهما حدثاً ثالثاً هو المناورات العسكرية المشتركة الأميركية- الكورية الجنوبية المزمع تنفيذها في خلال الساعات المقبلة، يصل الى استنتاجات ليس أقلها الآتية : 

-أولاً : يمكنُ القول إنه، وبتاريخ 5/8/2024 غزت أوكرانيا روسيا ووصلت الى عمق 1000 كيلومتر حيث منطقة كورسك التي باتت تحت سيطرة القوات الأوكرانية بدعمٍ أميركي أطلسي واضح لم يخفَ على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي قالها بصراحة تعليقاً على هذا الحدث الجلل. أما تفسير هذا الغزو المعاكس المدعوم أميركياً وأطلسياً فهو أن الولايات المتحدة الأميركية قرّرت إنهاء الحرب في أوكرانيا من خلال تحقيق أهداف استراتيجية مهمة جداً، ليس آخرها فكّ التحالف العسكري القائم بين إيران وروسيا، والتحالف السياسي والاستراتيجي بينهما و بين الصين … فالولايات المتحدة التي وضعت نصب عينيها حلّ الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، أرادت ضرب كبرياء الطرف الروسي وعنجهيته وإرغامه على التوجه الى طاولة المفاوضات على أساس “أرض مقابل أرض” .

وانطلاقاً من هذه المعادلة الجديدة، يصبحُ بإمكان واشنطن، إن أرادت التفاوض مع الروسي، على إخراج روسيا من المعادلة السورية بنفس الوقت الذي تستعيد فيه واشنطن طهران … ومن أجل كل هذا، فإن نقل الحرب الى الداخل الروسي يُضعفُ بوتين ويُجبره على فكّ ارتباطه بإيران فيما تعطي الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي  “جرعة أوكسجين” تمكّنه من استعادة المبادرة على طاولة التفاوض انطلاقاً من ندّيةٍ محدّدةٍ مع الخصم الروسي .

-ثانياً : يمكن القول أيضاً إن ما حصلَ في بنغلادش من انقلاب على نظام الحكم القائم، والذي رُفض من الولايات المتحدة الأميركية جزيرة سانت مارتين لإنشاء قواعد عسكرية أميركية هناك، ليس سوى تمهيد مهمٌّ جداً لفتح معركة شرق آسيا حيث تتحضّر واشنطن وتتجهّز أمنياً وعسكرياً واستخباراتياً وسياسياً وديبلوماسياً وصولاً الى “ساعة الصفر”،

فواشنطن بدأت تعدُّ الأرضية لمعركة شرق آسيا (الشرق الأوسط في القاموس اللغوي الأميركي الجيو سياسي هو غرب آسيا)، الأمر الذي يتطلّبُ توفير الآتي :

أ- عدم مواجهة إيران لإسرائيل.

ب- فكّ الارتباط بين إيران وروسيا (وقف التبادلات العسكرية بينهما في الطليعة)

ج- إضعاف لُحمَة الجبهة  الأورآسية – الآسياوية بين الصين وسوريا و… إيران …عندها تصبحُ إيران جاهزة لمواكبة الولايات المتحدة (التي تحتاج لنظامها) باتجاه جنوب شرق آسيا،

فواشنطن تريد من طهران مساعدتها على مواجهة ملفات شرق جنوب آسيا لا إسرائيل، كما تريد إفهام موسكو وبكين بأن أوان تغيير النظام العالمي لم يحن بعد، وأن الولايات المتحدة الأميركية تبقى “ضابطة الإيقاع” في آسيا ولها اليد الطولى في التأثير والنفوذ في غربي وشرقي آسيا قطعاً لدابر أي تغيير في النظام العالمي المبني على التعدّدية القطبية .

من هنا، فإن واشنطن مكّنت أوكرانيا من إحداث المفاجأة، فيما الروس فشلوا على امتداد سنتي حرب من إحداثها رغم كل البروباغندا الإعلامية والمواقف المتصلّبة والتهديدات المتتالية من الكرملين وقيادته.

لقد تمكّنت واشنطن من نقل الحرب الى الداخل الروسي، وهي تعلمُ العجز الروسي في معالجة الخرق الأوكراني الكبير، وقد اعترفَ أحد نواب الدوما الروسي أندريه كوروليف للتلفزيون الروسي بأن على روسيا النظر الى هذا الحدث العسكري الكبير بعين العقلانية لأن موسكو لن تتمكّن من طرد الأوكرانيين بسرعة …

 سقوط خطوط الرئيس بوتين الحمر، بحسب صحيفة وول ستريت جورنال، و بدء اشتعال أزمات شرق وجنوب آسيا … كلها تحولاتٌ دولية كبرى تعصفُ وتتصاعد، فالصراع الدولي على أشُدّه … فهل نسأل بعد عن السبب الحقيقي للاحتشاد الأميركي والأطلسي العسكري الكبير في المتوسط والبحر الأحمر وبحر الخليج ؟!  

إنها ساعة المواجهة الدولية تطلُ برأسها … والمنطقة جزءٌ من رسائلها ومنازلاتها لا أكثر،

 وللحديث تتمة …

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: