مساءلة قانونيّة بموضوع الطعن بقانون تسوية مفتّشي الأمن العام

parlement2

في خضم الجدل القائم حول الطعن الذي تقدّم به رئيس الجمهورية جوزاف عون أمام المجلس الدستوري في القوانين رقم 7 و8 و9 في ما يخص الأمن العام، لا بد من قراءة متأنية توازن بين الاعتبارات الدستورية من جهة، والحيثيات الإنسانية والاجتماعية التي دفعت مجلس النواب إلى إقرار هذه القوانين من جهة أخرى.

الواقع أن هذه القوانين، التي أتت نتيجة اقتراح معجّل مكرّر وقّعه عدد من النواب من مختلف الكتل، لا تتضمن – بعد مراجعة نصوصها كما وردت في الجريدة الرسمية – خرقًا صريحًا للدستور أو تجاوزًا فاضحًا لمبدأ فصل السلطات كما ورد في بعض التوصيفات المتسرعة. لكنها، في الوقت ذاته، قد تفتح الباب أمام بعض الملاحظات أو التساؤلات الدستورية التي لا ترقى إلى درجة البطلان، بل تستحق نقاشًا هادئًا وواقعيًا.

أولًا: بين التشريع العام والحاجة الخاصة

أحد أبرز المآخذ الدستورية التي استند إليها الطعن هو أن القانون تناول حالات “فئوية” أو خاصة تتعلق بفئة من مفتشي الأمن العام، وهو ما قد يُعتبر، بحسب بعض القراءات، انتهاكًا لمبدأ “العمومية والتجرد” المفروض في التشريع. لكن الواقع مختلف.

ما قام به مجلس النواب هو معالجة خلل مزمن يمتد منذ العام 2007، نتجت عنه أوضاع مجحفة في حق فئة من الموظفين الأمنيين الذين خدموا الدولة في ظروف صعبة، وباتوا في موقع إداري معلّق من دون أفق قانوني واضح. في هذه الحال، لا يمكن اعتبار القانون شخصيًا أو فئويًا بمفهومه السلبي، بل أقرب إلى تشريع تصحيحي استهدف معالجة شذوذ قانوني سابق أحدث ظلمًا دائمًا.

هذا النوع من القوانين التصحيحية شائع في التجارب البرلمانية العالمية، ولا يُعد مخالفًا للدستور طالما أنه لا يخرق صراحة مبدأ المساواة ولا يستهدف شخصًا معينًا بالاسم.

ثانيًا: مبدأ المساواة

يُقال إن القانون خالف المادة ٧ من الدستور المتعلقة بالمساواة بين المواطنين. لكن هذا الطرح يفترض أن كل المواطنين في مواقع وظيفية متطابقة، وهو افتراض خاطئ. فالمساواة لا تعني التطابق الكامل في الحقوق المكتسبة، بل تعني معاملة متساوية لأوضاع متشابهة.

مفتشو الأمن العام الذين شملهم القانون هم أصحاب وضع قانوني خاص منذ سنوات، ولم يكن لهم في المراسيم الإدارية السابقة أي حلول فعلية. وبالتالي، فإن تسوية أوضاعهم بقانون، لا تعني تمييزًا عن فئات أخرى بل تصويبًا لمظلمة مزمنة.

ثالثًا: في مسألة الفصل بين السلطات

أحد أبرز ما قيل في معرض الطعن هو أن “التعيين والترقية من صلاحية السلطة التنفيذية لا التشريعية”. وهذا مبدأ صحيح في الإطار العام، لكن الواقع أن مجلس النواب لم يعين أو يرقّ أحدًا بمرسوم، بل أقرّ حقًا عامًا لفئة من العسكريين بالإحالة على التقاعد بعد ترقيتهم، ما لم تكن هذه الترقية قد حصلت ضمن المسار الطبيعي.

هنا نُذكّر أن المشرّع يملك حق تعديل الشروط القانونية للترقية والإحالة على التقاعد، دون أن يتدخل مباشرة في أعمال السلطة التنفيذية أو يُصادر صلاحياتها. وبالتالي، القول إن هذا القانون يشكل “تخطيًا” لصلاحيات مجلس الوزراء ليس دقيقًا.

رابعًا: ماذا عن الرجعية؟

صحيح أن التشريع الرجعي يجب أن يُستخدم بحذر، لكن حين يتعلق الأمر بتصحيح ظلم تاريخي مستمر، فإن الرجعية تُصبح أداة إنصاف. الاجتهاد القانوني والدستوري في لبنان وحتى في أوروبا، يقرّ بإمكانية إصدار قوانين تطبق بأثر رجعي شرط أن تكون مبررة وتهدف إلى تحقيق العدالة أو إعادة الحقوق.

خامسًا: في الأبعاد الإنسانية والسياسية

نحن اليوم أمام قانون لا يمنح امتيازات، بل يعيد الحد الأدنى من الكرامة الوظيفية لمن خدم البلد ووجد نفسه متروكًا دون أفق قانوني واضح. والطعن به قد يُفسّر – ولو عن غير قصد – على أنه تغليب للمقاربات الشكلية على حساب الإنصاف الاجتماعي.

كما أن الطعن، بحد ذاته، يعيد فتح جراحًا قديمة ويدفع إلى التساؤل: هل يجوز استخدام سلاح الرقابة الدستورية لمنع إنصاف فئة طالها الظلم؟ وهل نريد فعلاً قضاءً دستورياً يتجاهل البُعد الاجتماعي لتشريع ما، مكتفيًا بالمادة والحرف؟

خاتمة

صحيح أن الدستور هو المرجع الأسمى، لكن لا يجوز أن يُستخدم كسيف على رقاب الفئات الأضعف. القوانين ٧ و٨ و٩ قد لا تكون مثالية، لكنها جاءت ضمن السياق الدستوري المشروع، ومن دون خرق فاضح لأي قاعدة دستورية. أما النقاش حولها، فيجب أن يبقى في إطاره المؤسساتي، بعيدًا عن المزايدات أو التصنيفات التي تُلغي كل أبعاد الإنصاف الاجتماعي.

ففي النهاية، الدستور لم يُكتب فقط لحماية التوازن بين السلطات، بل لحماية كرامة الإنسان.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: