Search
Close this search box.

معالمُ اتجاهاتٍ جيو سياسيةّ نحو نظامٍ إقليميٍ جديدٍ: الكل تخطّى عتبةَ “الخجل السياسي”

iran

مما لا شكَّ فيه أن قصف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان الماضي شكّلَ “نقطة تحوّل” أساسية في أزمة المنطقة وخيوطها المتشابكة

إستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق فتحَ مرحلة جديدة من المواجهة الإقليمية

تلك الحادثة وقتذاك عنت أمرين أساسيين: الأول سقوط المحرّمات التي لطالما نظّمت قواعد اللعبة في المنقطة بين اللاعبين الإقليميين لا سيما إيران وإسرائيل، فيما الثاني تمثّلَ بنوعية الاعتداء التي عنت في ما عنته انكشاف كل سفارات إيران وقنصلياتها في المنطقة والعالم وسقوط الحصانات السياسية والديبلوماسية في مقابل استباحة المباني والمراكز الإيرانية كجزءٍ من تغيّر معطيات اللعبة وحساباتها وموازين القوى فيها.

الاعتداء على القنصلية الإيرانية في دمشق افتتحَ مرحلةً جديدةً من المواجهة والتعاطي الإقليمي والدولي مع النظام في طهران لاسيما وأن الحرس الثوري الإيراني الذي لطالما شكّلَ العمود الفقري للنظام ووجوده في المنطقة أصبح حالياً هو المستهدَف من الاعتداء على القادة والمسؤولين العسكريين والأمنيين والاستخباراتيين الإيرانيين في سوريا، تمهيداً لاستهداف إيران في أكثر من دولة من الدول التي تحتلّها بالواسطة من خلال ميليشياتها كما في لبنان والعراق.

حرب الممرات البحرية والمشروع الهندو-أوروبي

بالمقابل، لوحظ في الآونة الأخيرة استعار حربٍ من نوعٍ جديد في الإقليم تمثّلت باستهداف الممرات المائية الكبرى كالبحر الأحمر وقناة السويس وباب المندب وحديثاً البحر الأبيض المتوسط من خلال تهديد الأمين العام لحزب الله بقصف قبرص، باب القارة الأوروبية ومقرّ القواعد البريطانية التي تُنفّذُ عملياتٍ لدعم آسرائيل منذ ٧ تشرين الأول الماضي، والتي اجتهدت في التصدّي للمُسيّرات والصواريخ الإيرانية التي استهدفت آسرائيل مؤخراً، في وقت تمدد الحوثي بالسلاح والمال غرباً باتجاه الصومال، وقد زوّدَ حركة “الشباب الصومالي” بالسلاح والعتاد والمال من أجل التشارك في زيادة وتصعيد عمليات القرصنة البحرية للسفن وقبض الخوّات وتقاسم مغانمها.

حرب الممرات والبحار هذه لن تكون بأي شكلٍ من الأشكال تفصيلاً استراتيجياً أو جيو سياسياً عندما ندركُ أن تلك الممرات والبحار المستهدَفة هي المعنّية بتنفيذ المشروع الهندو- أوروبي الذي أُقرّ في “قمّة العشرين” العام الفائت، ما يدعو الى طرح إشكالية التورّط الإيراني مع حركة حماس في عملية 7 تشرين الأول الماضي التي لم تقتصر في أهدافها على منع إنجاز التطبيع العربي- الإسرائيلي بل وأيضاً منع تنفيذ مشروع الخط الهندي- الأوروبي المار بدول أساسية من دول الشرق الأوسط التي تترابط مع إسرائيل، وقد أضحت أهم مناطق العالم ترابطاً في هذا المشروع عرضةً للتهديد الاستراتيجي والعسكري والعملاني بين آسيا وأوروبا وأفريقيا (مع مصر )، فطهران أكثر ما يهمّها هو إفشال هذا المشروع الى جانب الصين وروسيا وتركيا.

جرأة متبادلَة في المواجهة بين طرفي النزاع

إنطلاقاً من هذا المعطى الجيو سياسي، بات من الواضح أن ما يُحاك اليوم في المنطقة وما تشهده من تقلّبات حادة وإعادة خلط أوراق مستمرة ضاعفت منها حرب غزّة واشتعال الجنوب اللبناني، كل ذلك يهدف الى الوصول  لتحقيق الهدف الأكبر على الضفة المقابلة للممانعين ألا وهي التلاقي الهندي- السعودي الخليجي- الإسرائيلي – الأوروبي، أي تغيير في النظام الدولي الحالي والمستهلك انطلاقاً من مشروع الممر الاقتصادي والتجاري، ما يعني أنه لا يجب التقليل استراتيجياً أقله لناحية أهمية ما حملته المواجهة العسكرية العلنية التي حصلت بين إيران وإسرائيل مؤخراً من معانٍ ورسائل على الرغم من طابعها التمثيلي والاستعراضي أكثر منه الحقيقي، إلا أن ما يجب أن نحفظه مما حصل هو التالي: بروز جرأة متبادلَة في المبارزة المباشرة، ما يعني أن زمن التحارب والتصارع بالواسطة قد ولّى وتجاوزَ كلا الطرفين الإيراني والإسرائيلي عتبة “الخجل السياسي” أو “الخبث السياسي”، فإسرائيل تجاوزت هذا “الخجل” باستهدافٍ مباشرٍ للقنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال كبار قادة الحرس الثوري في سوريا، فيما إيران تجاوزت مرحلة “الخجل” بالتلطّي وراء وكلائها للمواجهة بانتقالها، ولو المدروس والمضبوط أميركياً الى المواجهة المباشرة لإسرائيل .

المنطقة دخلت عملياً مرحلة مخاضٍ تمهيدية متقدّمة

هذا التبدّل والتغيير في الاستراتيجيات عكسَ حالة تبدّل الحسابات الإقليمية والدولية، كما عكسَ انتقال المنطقة الى مرحلة صياغة خطوط اشتباك وتشابك مصالح جديدة من شأنها أن تؤدي الى بروز تحالفات ومعاهدات إقليمية ودولية جديدة في المنطقة تكرّسُ واقعاً جديداً وتقلبُ جذرياً المعادلات السابقة،

والحقيقة التي يجب أن تُقال، وبغضّ النظر عمّا يجري في غزّة وتداعياته ومشهدية الارتباك والتوترات في لبنان وسوريا واليمن والعراق، هي أن المنطقة دخلت في مخاض المرحلة التمهيدية المتقدّمة جداً والتي تسبق ولادة نظام إقليمي جديد عربي- غربي- إسرائيلي، والترقّبُ سيّد الموقف لِما سيستجدُّ من معطياتٍ ومفاوضاتٍ ولقاءاتٍ واجتماعاتٍ “صاعقة” ستُبرِزُ رويداً رويداً وجه الإقليم المستقبلي.

وجبةٌ إقليميةٌ جديدة وصيغةُ تقاسمِ مصالح

النظام الإيراني يتابعُ باهتمامٍ بالغٍ هذه الأجواء والمعطيات، وهو يعلمُ بما يجري في الكواليس الإقليمية والدولية تحضيراً ” للوجبة ” الإقليمية الجديدة وصيغة تقاسم المصالح الجديدة فيها، من هنا فإن إيران تتشدّدُ وسوف تتشدّدُ أكثر فأكثر بأوراقها الإقليمية لكن ليس كلها، لأنها تدركُ أن سيطرتها على لبنان وسوريا لم تعد بالقوة التي كانت عليها في العام 2006 في لبنان وغداة انتهاء الحرب الأهلية في سوريا، وثمّة محاولات ضخمة جارية لتحييد إيران عن التوتر في الجنوب اللبناني بحيث اذا ما نجحت تلك المساعي في تحييد طهران عن الورقة اللبنانية يصبح مصير حزب الله على المحكّ من رأس الهرم الحزبي الى أسفله، كما يجب أن نضيف الى كل هذه المعطيات عاملٌ آخر لا يقلُّ أهميةً وخطورةً ألا وهو احتمالية وصول الرئيس دونالد ترامب مجدّداً الى البيت الأبيض في تشرين الثاني المقبل، ما لن يكون أبداً لصالح النظام الإيراني الذي يشعرُ من الآن وكل يوم بمحاصرته من الظروف المحيطة به.

المخاضُ الكبير والاستثمار في الوقت الضائع

في وقت تكاد المملكة العربية السعودية بقيادة ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان تنجحُ في استعادة القسم الأكبر من سنّةِ المنطقة العربية من المنظمات والعقائد السياسية الدينية المتطرّفة مثل داعش وطالبان والقاعدة  لإعادتها الى منطق النظام الدولي والإقليمي كجزءٍ لا يتجزأ منه، نجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يزور الصين وكوريا الشمالية من دون المرور بإيران، وقد تبدّلت حسابات الكرملين بعدما أدرك ضعف الورقة الإيرانية في مواجهته الغرب والولايات المتحدة الأميركية، ولو أنه لا يزال مضطراً للمساكنة مع طهران في سوريا لأمدٍ متوسطٍ.

 إنه المخاضُ الكبير الذي لن يكون سهلاً ولا مزروعاً بالورد نحو نظام إقليمي جديد نعيش إرهاصاته التمهيدية الأولى … لكن الصورة لن تنجلي نهائياً قبل تشرين الثاني المقبل رغم كل محاولات الديمقراطيين وإدارة الرئيس جو بايدن الاستثمار في الوقت الضائع.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: