تتجه الأنظار إلى جلسة مجلس النواب المقررة يوم الثلثاء، في ظل قرار عدد كبير من الكتل والنواب المستقلين بمقاطعتها، احتجاجاً على ما يعتبرونه تجاوزًا خطيرًا لصلاحيات المجلس والدستور من قبل رئيس مجلس النواب، الذي بات يتمادى في توسيع سلطته إلى حدّ التحكم بمسار التشريع ومحتوى جدول الأعمال، وكأنه صاحب القرار الأوحد في الحياة النيابية.
تغوّل في الصلاحيات وتحكّم بالقرار النيابي
منذ فترة، تتكرّر ممارسات تُظهر نزعة متصاعدة لدى رئيس المجلس لتكريس سلطة شبه مطلقة على البرلمان، من خلال احتكار تحديد ما يُدرج على جدول الأعمال وما يُستبعد منه، ولو كان يحظى بدعم أكثرية نيابية واضحة. فالقانون المعجل المكرر المتعلق باقتراع المغتربين، الذي وقّع عليه عدد كبير من النواب، لم يُدرج مجددًا على جدول الجلسة، رغم المطالبة المتكررة بذلك.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تجاوز الرئيس الأصول الدستورية بعدم إقفال محاضر جلسات فقدت نصابها القانوني، ما سمح له بتعطيل نشر قوانين سبق للنواب أن صوتوا على إقرارها. هكذا، باتت إرادة أكثرية المجلس رهينة قرار سياسي فردي، واختُصر البرلمان بشخص واحد يتحكم بمسار التشريع وفق حساباته الخاصة.
مقاطعة المعارضة: موقف مبدئي لا تكتيك سياسي
القوات اللبنانية، وتحالف التغيير، وعدد من النواب المستقلين، أي ما كان يُعرف بمجموعة نواب المعارضة الثلاثينية، أعلنوا بوضوح مقاطعة الجلسة المقبلة، مؤكدين أن الأسباب التي دفعتهم إلى مقاطعة الجلسة السابقة لا تزال قائمة. فعدم إدراج قانون اقتراع المغتربين، الذي يُفترض أنه حق دستوري ومكتسب بعد نضال طويل، يُشكّل استهتارًا بالإرادة الشعبية وبمفهوم التمثيل الحقيقي للبنانيين المقيمين في الخارج.
هؤلاء النواب شددوا على أن المسألة ليست مجرد لعبة أرقام أو تطيير نصاب، بل قضية مبدئية تتعلق بجوهر العمل البرلماني واحترام الدستور. إذ إن اختصار صلاحيات المجلس بيد الرئيس، وتحويل الجلسات إلى منصّة لفرض أجندة سياسية محددة، هو انتهاك مباشر للفصل بين السلطات ولروح النظام الديمقراطي.
أولويات مشبوهة ومصالح ضيقة
النواب الذين قرروا المشاركة في الجلسة، لا يظهر أنهم مهتمون فعلًا بحق المغتربين بالاقتراع أو بالدفاع عن التمثيل الوطني الشامل. جلّ اهتمامهم ينصبّ على تمرير قوانين سبق أن أقرّها المجلس ثم احتجزها رئيسه، مثل تعديلات قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وغيرها من المشاريع التي تخدم مصالح محددة. وهكذا، يصبح الحضور إلى الجلسة نوعًا من المسايرة السياسية لرئيس المجلس على حساب المبادئ والمصلحة الوطنية.
موجة التغيير تخذل من صنعها
المفارقة المؤلمة أن موجة التغيير التي برزت في الانتخابات الأخيرة، بفضل أصوات اللبنانيين في الاغتراب، تبدو اليوم في موقع التخاذل حيال القضية نفسها. فباستثناء النواب ميشال دويهي ووضاح الصادق ومارك ضو، قرر معظم نواب التغيير المشاركة في الجلسة، في خطوة اعتُبرت بمثابة خيانة رمزية للناخبين الذين حملوهم إلى البرلمان من وراء البحار.
حضور الجلسة، وفق المنتقدين، لا يمكن تفسيره إلا كتخلٍ عن المبادئ التي قامت عليها حركة التغيير، وضربٍ لمفهوم الدفاع عن صوت اللبنانيين في الخارج الذين كانوا شريكًا أساسيًا في صناعة الأمل بالتغيير السياسي.
جلسة فاصلة ومساءلة ضرورية
قد تكون جلسة الثلثاء هي الجلسة التشريعية الأخيرة قبل مناقشة الموازنة وتوقف العمل التشريعي لهذا المجلس، ما يجعلها مفصلية. لكن السؤال يبقى: هل القوانين المطروحة تستحق هذا التنازل المبدئي؟ وهل يجوز، باسم الواقعية السياسية، إسقاط مطلب حيوي كحق المغتربين بالاقتراع، مقابل تمرير بعض البنود التقنية أو الإدارية؟
الجواب بالنسبة إلى المقاطعين واضح: لا تشريع يعلو فوق الدستور، ولا تسوية تبرر مصادرة صوت الناس. فالمقاطعة هنا ليست انسحابًا من العمل النيابي، بل دفاعًا عن جوهره، وعن حق اللبنانيين جميعًا ، في الوطن والاغتراب، بأن يكون صوتهم محترمًا ومسموعًا.