من التراث إلى القلب.. جوقة جامعة الروح القدس تُعيد الميلاد إلى الحياة

usekk

من المزامير إلى الأناشيد، ومن العربيّة إلى السريانيّة، صغاراً وكباراً، جالسين وواقفين، اجتمعوا في قلب الكسليك ليصغوا إلى موسيقى الميلاد السنويّة. منذ النغمة الأولى، بدا واضحاً أنّ الصوت في تلك الأمسية لن يكون مجرّد لحن، بل صلاة تُنشد وتُعاش، وتلامس الأعماق قبل الآذان. امتلأت قاعة جامعة الروح القدس بالأنفاس الصامتة قبل أن تمتلئ بالمقاعد. فاض الحضور إلى كلّ زاوية، ووقف كثيرون لساعتَيْن كاملتَيْن بلا تذمّر. ساد صمت كثيف، صمت الإصغاء الكامل، لا يقطعه سوى تصفيقٍ دافئ وصادق، يخرج من القلب ويعود إليه.

في زمنٍ مُثقل بالتحدّيات، وفي وطنٍ عطشان إلى سلامٍ حقيقيّ، تعود جوقة جامعة الروح القدسالكسليك لتؤكّد أنّ الميلاد لا يزال حيّاً. لا كذكرى عابرة، بل كحضورٍ متجدّد ووعدٍ لا يخبو مهما اشتدّ الظلام. ففي هذا الرسيتال السنوي، بدا الصوت كأنّه ينهض من وجدان الوطن، ليهمس بأنّ الرجاء ممكن، وأنّ الموسيقى قادرة على فتح نافذة نور.

في أمسية ميلاديّة حملت عنوان "أصوات الإيمان، ألحان الفرح"، أحيَت جوقة جامعة الكسليك حفلة الميلاد السنويّة بقيادة الأب ميلاد طربيه، وبحضور السفير البابويّ في لبنان المونسنيور باولو بورجيا، والرئيس العام للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة والأب العام هادي محفوظ، ورئيس جامعة الروح القدس – الكسليك الأب البروفسور جوزيف مكرزل. ومع كلّ ترنيمة، انفتح فضاء روحّي واسع حمل الحضور في رحلة إيمانيّة عميقة، حيث التقى الصوت بالمعنى، واللحن بالإيمان. كلّ ترنيمة أعادت إلى الذاكرة "نَعَم" العذراء، تلك الكلمة الهادئة التي غيّرت وجه التاريخ، وكلّ تسبيحة قادت القلوب إلى المذود المتواضع، حيث اختار الله أن يأتي إلى العالم بصمت وحنان. ومع كلّ لحن، امتلأت القلوب نوراً وأملاً، وكأنّ الموسيقى صارت لغة رجاء.

ومن قلب هذا المناخ الروحي، انبثق تراث الكنيسة السريانيّة والمارونيّة حيّاً في الصوت. تعانقت الليتورجيا المارونيّة والسريانيّة مع الموسيقى الميلاديّة الكلاسيكيّة، فانبض تراثٌ عمره أجيال من جديد، حيّاً في الصوت والإيمان، وفي هذا التلاقي العميق بين الماضي والحاضر. تنوّع البرنامج بين نصوص كتابيّة ومزامير، وأناشيد للقديس مار أفرام السرياني، وموشّحات روحّيّة وصور شعريّة شرقيّة، التقت جميعها تحت شعارٍ واحد: "وُلد المسيح، فالمجد له". شعار لم يُنشد بالكلمات فحسب، بل كُتب في طبقات الصوت، وفي انسجام الجوقة مع الأوركسترا. وزاد المشهد دفئاً وعمقاً مع مشاركة صوتَيْن لبنانيّين مميّزين في الغناء المنفرد، هما الدكتورة غادة شبير والأخ بيار دريان. انسجم صوتاهما مع الجوقة، فصارت الترانيم أكثر دفئاً وعمقاً، كأنّ كل نغمة صلاة حيّة تلمس القلوب وتصل إلى الأعماق.

هكذا قادَتْنا الأصوات الجماعيّة والمنفردة في رحلة روحّيّة متكاملة: من "نَعَم" العذراء، إلى المذود المتواضع، رحلة تناغمت فيها الموسيقى مع الإيمان، وصارت الترانيم تجربة روحّيّة حيّة تشعر بها القلوب.

فمنذ تأسيسها عام 1950، تثبت جوقة جامعة الروح القدسالكسليك عاماً بعد عام، أنّ الموسيقى ليست فنّاً يُقدَّم، بل رسالة تُحمَل من جيلٍ إلى جيل. رسالةٌ صمدَتْ أمام تغيّر الأزمنة والظروف، وبقيَتْ وفيّة لجوهرها: أن تجعل من الترتيل إعلان إيمان، ومن الصوت شهادة حيّة.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: