لم يكن المسار الإصلاحي الجاري داخل قصور العدل وليد صدفة أو تحركًا عابرًا، بل جاء ثمرة رؤية واضحة وجهود مثابرة تبناها النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان، القاضي سامي صادر، منذ استلامه مهامه. إن جهود القاضي صادر وحملته غير المسبوقة لمكافحة الفساد والسمسرة القضائية تُعد علامة فارقة في مسيرة القضاء اللبناني، وأثبتت أن التغيير ممكن عندما يلتزم القاضي بنزاهة لا تلين ورؤية إصلاحية شاملة، بعيدًا من الانتماءات السياسية أو الانحياز لأي طرف.
انطلاقاً من تلك الرؤية، فتح القاضي صادر، باب ملاحقة السماسرة الذين يبتزون المتقاضين عبر إيهامهم بإمكانية تسريع القضايا أو تفضيلها على أخرى. وقد شكلت خطوة كشف إحدى الحالات المتعاملة مع هؤلاء السماسرة، التي تضمنت نقل صور مستندات من داخل قصر عدل بعبدا، فاتحة الطريق لملاحقة هذه العصابات على مستوى لبنان كله.
وقالت مصادر متابعة للملف إن الإجراءات التنظيمية التي اتخذها القاضي صادر، منذ تسلمه مهامه بالوكالة ثم بالأصالة، ضيقت الخناق على هؤلاء السماسرة إلى أن وقعوا في شبكة القضاء.
وتفيد المعلومات بأن الحملة ضد مجموعات السمسرة بدأت تتوسع تدريجياً في قصور العدل من بيروت إلى طرابلس، صيدا، زحلة، ومناطق أخرى، مع وعد برفع معاناة المتقاضين من الابتزاز الذي كان يمارس عليهم، في إنجاز إصلاحي كبير يتناغم مع قانون إصلاح القضاء المتوقع تطبيقه قريبًا.
وتشير المصادر إلى أن الخطوة الأولى التي أطلقها القاضي صادر أسقطت الكثير من الحمايات وأزالت الخوف المحيط بمواجهة هذه الظاهرة التي تعتبر تفكيكاً لهيكل مافيا قضائية راسخة.
ودعت مصادر مطلعة، عبر موقع "LebTalks"، القضاة والمحامين إلى التعاون لمواجهة السماسرة وقطع الطريق على من يستغل قضايا الناس لتحقيق أرباح غير مشروعة أو تحريف العدالة.
بموجب مصادر مطلعة، لاحظ صادر منذ الأيام الأولى لسنده موقعه وجود ثغرات فاضحة في عمل النيابات العامة، لكنه فضل التريث حتى استكمال التعيينات القضائية ليتمكن من التحرك بشكل مؤسساتي منظم.
وتؤكد المصادر أن مكافحة السمسرة القضائية بدأت في جبل لبنان، لكنها لم تقف عند حدوده، إذ امتدت إلى مناطق أخرى مثل الشمال، حيث تبنى النائب العام هناك خطوات مماثلة مستلهمًا تجربة صادر.
وتشدد المصادر على أن هدف صادر لم يكن إلغاء السمسرة بشكل مطلق، إذ من الصعب القضاء عليها بين ليلة وضحاها، بل تنظيمها ضمن مسارات قانونية واضحة تردع الاستنسابية والابتزاز. ومن أبرز التحولات التي قادها إلغاء "ورقة المواجهة"، والتي شكلت نقطة تحول مهمة في معالجة الشكاوى وخففت الأعباء عن المواطنين الذين كانوا يضطرون إلى المرور بعدة موظفين وأحيانًا دفع رشاوى للوصول إلى العدالة.
أما بالنسبة للشكاوى المقدمة يدوياً والتي كانت بيئة خصبة للسماسرة، فقد عمل صادر على تنظيم آلية تقديمها بالتنسيق مع قوى الأمن الداخلي، ما أعادها إلى مسارها الطبيعي بعيدًا من التأثيرات غير القانونية.
الإصلاح القضائي الذي قاده صادر لم يكن مجرد تنظيم إداري، بل أعاد الاعتبار لمبدأ التوازن في عمل النيابات العامة، وأنهى التسييس والانحياز، مما أعاد الثقة الجزئية بالدور المحايد والعادل للقضاء.
اليوم، يعول على النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان أن تكون نموذجًا يُحتذى به لباقي النيابات العامة الاستئنافية في المحافظات كافة، خاصة في ظل حاجة لبنان الملحة لاستعادة ثقة المجتمع الدولي، والتي لا يمكن تحقيقها دون إصلاح قضائي حقيقي يشكل ركيزة أساسية لأي نهضة مؤسسية.